&طيب تيزيني

تحولت الأزمة السورية إلى كرةٍ ثلج تتقاذفها المصالح الدولية والإقليمية الكامنة وراء ما يحدث من مواقفٍ دولية هنا وهناك عبر العالم، وإذا أضفنا أن هذه الوضعية تسلك خطّاً تصاعدياً ومفتوحاً من التعقيد والاضطراب والخطر العسكري والدبلوماسي القائم الآن، فإن من الممكن ملاحظة أن الأخطار العظمى المفتوحة على مصراعيها ها هنا، أصبحت واقعاً يهدّد العالم بحربٍ «عالمية»، أو كما يرى بعض آخر بحرب «شبه عالمية»! فليست هنالك جهودٌ تفضي إلى توافق أو آخر، إلا وتجد أمامك جهوداً أخرى تعلّقها أو تسحقها أو تشكك في مصداقيتها. وهذا ما أنتج الاعتقاد بأن حل الأزمة السورية يكاد يكون قد فقد انتماءه السوري، وأُخرج من ثم من حاضنته وأسبابه وفواعله الأساسية الداخلية، مما يضعنا أمام اعتقاد البعض بأن حل الأزمة أصبح خارج أيدي أصحابها، وهذا ما قاد أطرافاً واسعة للبحث عن الحل خارج سوريا، وخصوصاً حين ظهرت أطراف إقليمية ودولية تعلن أنها هي المعنية بالأمر.

إن التدخل الدولي في سوريا لم يبدأ فيما فعلته روسيا، كما هو شائعٌ في الأوساط العامة، بل فيما أسست له الولايات المتحدة من مواقفَ زائفةٍ وهمية، أي حين راحت تزوّر دورها بإحالته إلى الدرجة الثانية أو الثالثة بعد روسيا و«داعش». ذلك أنها بهذا الفعل خلطت المواقف المحلّية والإقليمية الدولية، ووضعت نفسها في موقعٍ يرادُ له أن يقوم بإظهارها متضامنةً مع سوريا، ولكن «الآخرين» هم الذين حالوا دون ذلك، بل إن الأميركيين أظهروا هذا الموقف وكأنهم هم «مظلومون»، وقد ظهر الأمر هكذا مجسّداً خصوصاً في الرئيس الأميركي أوباما، فقد أراد أن يثبت أنه غير ذي علاقةٍ بما يحدث عالمياً، ما جعله يظهر غارقاً في التردد والتلفيق والسطحية والغباء السياسي، وفي هذا وذاك كان دور «المغلوب على أمره» يظهر ويسَوَّق على أنه معوق للدور الأميركي، الذي يوهم بكونه محايداً.

وفي سياق هذا كانت تلوح معالمُ موقف آخر من تلك الأزمة ظهر في أن الأميركيين والروس كليهما ذوو موقف واحد أو متقارب من الحدث السوري، وهو ضرورة حصار سوريا والحيلولة دون إنجاز ما تسعى إليه من الحفاظ على وحدتها أرضاً وشعباً.

ولعلنا ننتبه إلى عاملٍ آخرَ يراد له في ذلك أن يبقى فاعلاً، ولكن مغيّباً عن الأنظار والحسابات الاستراتيجية، ونعني العامل الإسرائيلي، فهذا الأخير لم يغب أبداً عن المسألة السورية والعربية عموماً، فإسرائيل ما زالت حريصةً على إبقاء الصراع بينها وبين العالم العربي ذا بعدٍ «وجودي» ينطلق من ثنائية الوجود والعدم.

إن الصراع على ذلك المستوى «الوجودي» يؤدي والحال هكذا إلى الحيلولة دون السماح لسوريا بتجاوز «الحدود المرسومة لها»، والدخول في مجال إعادة النظر في خريطة الشرق الأوسط، ومن هنا يبرز التوافق بين مواقف الأميركيين مع مواقف الروس: أن سوريا قد تهدّد هذا التوافق فيما إذا خرجت من طوق الفريقين كليهما، واتخذت طريق استعادة الحق الفلسطيني، ولو عن طريق «حل الدولتين». والآن اتضح لأولئك أن سوريا حين ترفض الخيار بتصفية القضية الفلسطينية، فإنها تكون قد دخلت في «حقل المحظور»، ما يجعل المسألة أكثر تعقيداً.

نحن هنا نجد أنفسنا متجهين في طريق الوصول إلى الخط الوطني والقومي في سوريا، الذي أعلن عنه نجيب عازوري عام 1905، حيث رأى أن الحل الإسرائيلي الصهيوني لا يُفضي إلى حل عادل، تتصدى له سوريا تأكيداً ومطالبةً. أما إذا غُيّب هذا الحل بحيث تفصل سوريا عنه، فإن الأمر يصبح ممكناً حسب رأي الآخرين، ومن ثمَّ فإن سوريا هذه لا تجد ولن تجدَ حلاً وطنياً وقومياً. هذه هي الرؤية الإسرائيلية للمسألة، مما يعني أن إسرائيل لن تجد مصيرها مقترباً أو قريباً من حلٍّ وطني وقومي لسوريا وللفلسطينيين وليس من مصلحتها أن ينتهي الصراع في سوريا.

لقد تعقّد الوضع في سوريا بظهور لعبةٍ شائكةٍ وخطيرة على طريق ما سيأتي لاحقاً، ولكن، دون أن يكون الداخل السوري هو الفاعل والمؤسس والضامن لحقوق الجميع المشروعة. أما الموقف والأفق المستقبلي فيبقى مفتوحاً على أكثر من اتجاه، وأكثر من نهاية ممكنة، حتى لو كانت تبدو الآن صعبة وعصية.