&&محمد السلمي&

&

التحرك العربي الجاد والحازم قاد النظام الإيراني إلى إستراتيجية ما يمكن تسميته بـ"الانحناء للعاصفة"، وامتصاص الحماس العربي والخليجي لمحاصرة الوجود الإيراني في المنطقة، وخروج طهران بأقل الخسائر

&بدأت إيران ما بعد الثورة في تدخلها في الشأن الداخلي العربي منذ العام الأول لانتصار الثورة الشعبية التي تم اختطافها من الملالي.

استخدمت إيران في بداية المطاف ما يسمى بالقوة الخشنة Hard Power خلال الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 8 سنوات 1980-1988، فلم تنجح في تحقيق أهدافها، الأمر الذي قاد الخميني إلى توقيع معاهدة إنهاء الحرب بعد أن رفضها عام 1984، وقال مع توقيع هذه الاتفاقية إنه "يتجرع كأس السم". خرجت إيران من هذه الحرب منهكة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وبالتالي كانت تحتاج إلى الخروج من الأزمة التي تعيشها، ولهذا اتجهت إلى ما يسمى بـ"القوة الناعمة"Soft Power الأسلوب الدبلوماسي الثقافي، والعزف على المشتركات الحضارية في الفترة الثانية للرئيس علي أكبر هاشمي رفسنجاني 1993-1997، وبخاصة عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي 1997-2005.

شهدت هذه المرحلة أخطر مراحل التوغل الإيراني في الداخل العربي، فاستثمرت مرحلة الانفتاح الممنهج على العالم العربي والإسلامي، لزرع خلاياها وتثبيت أقدامها في هذه الدول، مخفية ذلك خلف الوجه الدبلوماسي المنفتح، ودعوات حوار الحضارات، ومعارض المنتجات الإيرانية التي جابت كثيرا من العواصم العربية والخليجية.

في هذه المرحلة أيضا، ركزت إيران على تأسيس وتفعيل ما يسمى بالمراكز الثقافية التي يديرها مسؤولون أمنيون تابعون للحرس الثوري الإيراني، ومرتبطون بشكل مباشر بمكتب المرشد الأعلى، وليس وزارة التعليم أو الخارجية أو حتى البعثات الدبلوماسية الإيرانية في تلك الدول.

عملت هذه المراكز على تكثيف الأنشطة والفعاليات كغطاء تمويهي لأهداف التجنيد والاستقطاب والأدلجة.

كما شهدت هذه المرحلة أيضا التعاون الإيراني مع الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الغربية، لتسهيل عملية اجتياح أفغانستان في 2001، والعراق 2003، وقد قالها صراحة محمد أبطحي نائب الرئيس خاتمي "لولا إيران لما سقطت كابول وبغداد".

في أواخر هذه المرحلة، حدثت أيضا الخديعة الكبرى للشارع العربي المتعطش للانتصارات عبر ذراع إيران في لبنان، حزب الله، وما يسمى بـ"حرب" تموز 2006، والتي أنهكت لبنان ودمرتها دون أي مكاسب تذكر سوى للجانب الإيراني الذي ذهب ثلة من العرب إلى التصفيق له قبل أن ينكشف الغطاء مع بداية ما يسمى بـ"الربيع العربي".

مع مرحلة التقلبات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية منذ 2011، عادت إيران من جديد إلى سياسة القوة الخشنة، وإن كان ذلك عبر الحروب بالوكالة Proxy Wars، والاعتماد على الميليشيات الشيعية المسلحة في المنطقة العربية والخطاب الطائفي والعزف على المظلومية الشيعية، علاوة على تحريك بعض خلاياها النائمة، ونشاط استخباراتي كبير عبر خلايا التجسس الإيرانية في المنطقة، خاصة دول الخليج العربي، إذ شهدت السنوات القليلة الماضية تفكيك كثير من هذه الشبكات التجسسية في الكويت والسعودية والبحرين والإمارات واليمن.

أيضا عمدت إيران إلى دعم الحركة الحوثية في اليمن بالسلاح والمال والرجال، في مرحلة ما قبل انطلاق عاصفة الحزم. كثفت إيران أيضا نشاطها في مملكة البحرين ودولة الكويت خلال هذه المرحلة.

استشعرت دول الخليج العربي، بقيادة السعودية، خطورة التدخلات الإيرانية ومحاولات تطويق الجزيرة العربية، وبالتالي بدأت عملية تقليم أظافر إيران في المنطقة من اليمن، وتتجه الآن إلى إجبار إيران على الانكفاء إلى الداخل، وتقليل وجودها في العراق والشام.

هذا التحرك العربي الجاد والحازم قاد النظام الإيراني إلى إستراتيجية ما يمكن تسميته بـ"الانحناء للعاصفة"، وامتصاص الحماس العربي والخليجي لمحاصرة الوجود الإيراني في المنطقة، وخروج طهران بأقل الخسائر، وذلك خلال الحديث عن إرسال وزير الاستخبارات الإيراني إلى دولة خليجية شقيقة، والطلب منها لعب دور الوسيط لدى معظم دول الخليج العربي، لتجاوز الخلافات بين الجانبين، وفتح صفحة جديدة في العلاقات البينية، على الرغم من أن هذه الدولة الخليجية تضررت ذاتها من التدخلات الإيرانية، ولا نعلم إذا ما كانت قد وافقت على الطلب الإيراني أو رفضته.

لا شك أن الجميع يرغب في علاقة جيدة بين دول ضفتي الخليج العربي، والتعايش السلمي بين إيران ومحيطها الجغرافي والعربي تحديدا، إلا أن الحاجة حاليا ليس إلى مزيد من الحملات الإعلامية والخطابات السياسية الناعمة والدبلوماسية البراقة، بل انتظار خطوات إيرانية جادة على الأرض لكسب الثقة المهزوزة تاريخيا، وتغيير السلوك الطائفي والاستفزازي الذي ظلت طهران تنتهجه بطرق مختلفة، منذ عام 1979.

يعمل الرئيس حسن روحاني على تكرار التجربة "الخاتمية"، وكان من الممكن نجاحه إلا أن الظروف التي تعيشها المنطقة وانكشاف الأهداف الإيرانية حالت دون ذلك، ومع ذلك ظل يعزف إعلاميا على أسطوانة التقارب ومحاربة الإرهاب ونحو ذلك.

لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين كما يقال، وبالتالي الجميع تشبع من الوعود التي لا "تسمن ولا تغني من جوع"، وفي انتظار خطوات حقيقية تثبت جدية إيران، وأنها فعلا تحولت إلى دولة طبيعية ترغب في تحسين العلاقات مع العالم والمنطقة، وأنها تخلت عن مشاريعها التوسعية وإثارة الصراعات الطائفية ودعم الإرهاب.

الخميني كان يعتبر السعودية عدو إيران الأول، وقال قبل وفاته "إن تخلينا عن القدس وتجاوزنا الخلاف مع أميركا وتصالحنا مع صدام، فإننا لن نفعل ذلك مع السعودية"، فهل تغيرت إيران حقا بعد أن خففت نبرة العداء لإسرائيل، وتخلت عن شعارات "الشيطان الأكبر"؟، والأهم هل فعلا تخلت عن أدبيات الخميني وإرثه العدائي وعن نواياها تجاه البحرين، أو أنها تسعى إلى التصالح كما فعلت مع صدام ثم انتقمت منه بمساعدة غربية وأسلوب طائفي بامتياز؟

على إيران الحالية إثبات تغير سلوكها السابق بالأفعال لا الأقوال. شخصيا، أشك كثيرا في ذلك، لأن هذه السياسية بمثابة الأكسجين للنظام الإيراني، ولا يستطيع العيش دونه، وأتمنى أن أكون مخطئا!.