&عبدالله خليفة الشايجي

حتى قبل أن يوضح الرئيس أوباما مفهوم وفلسفة مبدئه، لقي من قبلنا نقداً واسعاً، ولعل أبرز أسباب النقد هو موقف إدارته المتراجع بالاستقالة الطوعية من الزعامة، وانتقاده الحلفاء، بمن فيهم نحن في دول الخليج، ووصفهم بـ «الراكبين بالمجان»! واقتراحه المستفز بتقاسم المنطقة مع إيران! ونتائج مبدئه التي تكشفت عن حصاد من العنف والفوضى، بسبب خط تفكير يقترب من النيو-انعزالية، وتفضيل عدم التدخل والمواجهة، لأن تكلفة ذلك أقل من تكلفة التدخل، من وجهة نظره. وهذا طبعاً ليس تفكيراً استراتيجياً، بل تفكير دولة محدودة القدرات، وبلا مصالح حول العالم، وذلك لتقليص الخسائر دون التفكير الجدي في تداعيات عدم التدخل على الأمن والاستقرار والمصالح الذاتية، وكذلك مصالح الحلفاء، وهذا مأخذ رئيس على إدارة أوباما، خاصة في سنتها الأخيرة هذه.

ومن الطبيعي أن نشهد حصاد مبدأ أوباما المر في عامه الأخير، وانعكاس ذلك على أمن واستقرار المنطقة. ونرى تجلياته في غياب الثقة بين حلفاء واشنطن، عرباً وأتراكاً وغيرهم. ونرى أيضاً النتائج في الخلل في موازين القوى، وعودة روسيا إلى منطقة نفوذ واشنطن وكسر احتكارها لشؤون الشرق الأوسط. وكيف تحولت موسكو إلى أهم لاعب في الأزمة السورية لملء الفراغ القيادي الذي تنازلت عنه واشنطن بشكل طوعي!

ولا تغرنا طبعاً استضافة وترؤس أوباما قمة الأمن النووي الأسبوع الماضي في واشنطن، وحديثه عن الحيلولة دون حصول الإرهابيين على السلاح النووي الذي تسعى منظمات من غير الدول كـ «داعش» وغيرها للحصول عليه. وقد قاطع الرئيس بوتين قمة الأمن النووي التي شاركت فيها خمسون دولة. وتبرعت السعودية بعشرة ملايين دولار لإنشاء مركز متخصص لمحاربة الإرهاب النووي مقره في فيينا، حيث أيضاً مقر الوكالة الدولية للطاقة النووية. وفي ذلك إشارة مهمة إلى تصميم السعودية على تصحيح الصورة السلبية عن الدول العربية، وقوة جهودها في مكافحة الإرهاب. وهذا ركن من أركان مبدأ الملك سلمان.

وباختصار، هنالك الآن أكثر من مؤشر على هذا التراجع الواضح للدور والحضور الأميركي الذي كان يوفر توازن قوى مصطنعاً يضبط الأمن بعامل الوجود العسكري الدائم منذ تحرير دولة الكويت في عام 1991. ومع ذلك وخلال ربع قرن، شهدت منطقة الخليج العربي حروباً وصراعات وأزمات لم تنجح الولايات المتحدة في منعها وردعها. بل استمرت، حتى لو برعت أميركا في إدارتها. وفشلت عملية السلام، وفي العراق وأفغانستان أخفقت أيضاً، وكذلك فشلت في التعامل مع ما سُمي «الربيع العربي»، وفي طمأنة الحلفاء ومواجهة الخصوم والأعداء.

وقد بقيت الأزمات عالقة بل متفجرة ومتداخلة، بل إن هذه الإخفاقات سبق بعضها تراجع الدور الأميركي قبل قرار الاستقالة الطوعية من الزعامة، وإغراق المنطقة في بحر من الفوضى والصراعات والمواجهات بسبب الأخطاء الاستراتيجية التي اقترفتها، خاصة إدارتا بوش الابن ومغامراته غير المدروسة التي تصل إلى مستوى الكوارث، كالحرب المفتوحة بلا خط أفق أو مؤشرات انتصار في مواجهة الإرهاب. وحرب أفغانستان -أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة التي تجاوزت في طول أمدها سنوات الحربين العالميتين الأولى والثانية! وكذلك حرب العراق التي انتهت بإسقاط نظام صدام حسين وضرب توازن الرعب الإقليمي مع إيران، بل وإسقاط العراق كلياً في حضن إيران وانتزاعه من محيطه العربي. ولا يقل خطراً عن هذا تحويل العراق إلى درة التاج الإيراني في العواصم الثلاث التي تفاخر طهران بالسيطرة عليها، بعد انتزاع صنعاء من نفوذها بفضل مبدأ الملك سلمان الجريء بشن عاصفة الحزم وإعادة الأمل قبل عام في اليمن لإعادة الشرعية وتحجيم الانقلابيين الحوثيين، ما وجّه للمشروع الإيراني ضربة قاصمة، ومعه أحد أذرع إيران العربية في المنطقة.

ومكمن أهمية عاصفة الحزم وما رافقها من خطوات جادة خلال عام وإجراءات الحزم الطموحة والجريئة بقيادة المملكة العربية السعودية ومشاركة فعالة من الشركاء الخليجيين تجاه أزمات المنطقة، أنها لم تُحدث فقط صدمة لإيران ومشروعها وأذرعها في المنطقة، بل أحدثت أيضاً نقلة نوعية واستقلالية في اتخاذ القرار والدفاع عن المصالح العليا دون استئذان أو قرار من واشنطن، ما يشكل تحولاً يؤسس لنظام أمني خليجي جديد. ولن تغير زيارة أوباما كضيف شرف في القمة الخليجية في الرياض، ولا اجتماع المجلس الوزاري الخليجي مع وزير دفاع الولايات المتحدة، الكثير من المعطيات بسبب عدم الرهان على تغيير قناعات أي من الطرفين، خاصة من قبل رئيس يغادر البيت الأبيض بعد تسعة أشهر!

إن هذه الاستقالة الطوعية من لعب دور الزعامة، والخلل في موازين القوى وتجرؤ الخصوم على تحدي التراجع الأميركي، دفع المملكة العربية السعودية، بالشراكة مع الحلفاء الخليجيين، لإطلاق مبدأ الملك سلمان بأركانه الطموحة لتشكيل محور يوازن ويردع ويمنع مشروع إيران. وسنناقش ذلك في المقال القادم، إن شاء الله.