&عبدالله السويجي

العنف موجود منذ أن وجد الإنسان على وجه هذه الأرض، صراعات بين المجموعات البشرية على الموارد الطبيعية، نزاعات بين التكتلات البشرية على النفوذ، وحروب بين الدول على الحدود، ثم اقتتالات بين الأديان، وبعدها بين المذاهب. كل تلك الصراعات كانت ولاتزال تتخذ من العنف وسيلة لحل مشكلاتها، ولم ينجح أي صراع في التوصل إلى حل حتى الآن، فالنتيجة لا غالب ولا مغلوب. وعلى الرغم من ذلك تستمر البشرية في اختراع أكثر الأسلحة تدميراً للبشر والحجر، حتى باتت الكرة الأرضية تختزن أسلحة تقليدية وغير تقليدية يمكنها تدمير كوكب يفوق حجم الكرة الأرضية بثلاث مرات.

وعلى الرغم من أن المجتمعات تمدنت ووضعت قوانين وشرائع لضبط الأفراد وكبح القوى التسلطية، إلّا أن الجريمة آخذة في الانتشار والاتساع والرسوخ في نفوس شرائح من البشر، ولم تجد معهم القيم ولا الأخلاق نفعاً في ردعهم لعدم ارتكاب الجرائم التي لا ترتكبها الحيوانات في الغابة.

ومع حدوث ثورة الاتصال الإلكتروني التي جعلت العالم قرية صغيرة، ومع تطور وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة التي تنقل كل ما يحدث في العالم، من قتل وحرق وتشريد وذبح، أصبح الإنسان يشاهد كل هذا وهو يتناول وجبة الطعام أو يحتسي قهوته في الصباح، من دون أن يرف له جفن، ومن دون أن يتعكر مزاجه، بل يشاهد مشهد ذبح رجل، وبقر بطن امرأة حامل، وحرق طفل ثم يتابع حديثه الفكاهي مع صديقه أو قريبه أو أبنائه، وكأنه يرى مباراة كرة قدم، أو يتابع مشهداً كوميدياً من مسرحية هزلية.

والسينما لم تراعِ الأثر السيئ لأفلام الرعب والجريمة على الأجيال، فتنتج كل فترة مئات الأفلام المليئة بمصاصي الدماء والتعذيب والقتل، والتي يسمونها أفلام (الأكشن والدهشة والترقب)، وجذبت هذه الأفلام أجيالاً بأكملها، حتى أن البعض أصبحت هوايته مشاهدة أفلام الرعب التي تعرض مقاطع سلخ الجلود وتقطيع الأطراف، إضافة إلى اختراع وحوش بمقدورها التهام إنسان ومضغه أو تقطيعه بهدوء تام.

أمّا وسائل الإعلام التي تتسابق على عرض مشاهد الحروب والدمار وسحب الأطفال من تحت الأنقاض بلا رؤوس أو أطراف، في محاولة لجذب المشاهد أو القارئ، لم تفكر لحظة واحدة أنها تبني أجيالاً بليدة، ودون إحساس أو قيم.

هل بعد هذا، يحق لنا أن نندهش من شاب يخنق أمه أو أب يطلق النار على ابنه، أو امرأة تعذب مربية تعمل في بيتها حتى الموت، أو شاب يشق صدر آخر، وينتزع قلبه ويمضغه؟ وهل يحق لنا أن نندهش من طفل يمرر سكينه على رقبة زميله، أو من أب يمارس التعذيب على أبنائه انتقاماً من أمهم، أو من شاب يمرر سكينه على نحر طفلة في شهرها السادس؟ هل يحق لنا الاندهاش من وجود عصابات المراهقين والمراهقات الذين يقتحمون البيوت فيسرقون ويغتصبون ولا يشعرون بأي تأنيب ضمير؟

العنف يولد العنف، والقتل يولد القتل، هذه مقولة قديمة لم يتوقف عندها صناع أفلام الرعب ولا أصحاب المحطات التلفزيونية في العالم، وكأن الحصول على المال هو الغاية والوسيلة، وبناء المجتمعات والأجيال في أدنى سلم الأولويات، إن لم تكن غائبة كلياً عن الأولويات.

هناك دول لا تسمح للمحطات التلفزيونية ببث برامج عنف ورعب وجرائم، إلّا في أوقات تضمن غياب الأطفال، إمّا في النوم أو المدرسة، وهناك دول تمنع هذه الأفلام منعاً باتاً، أما نحن العرب، فمن الطبيعي جداً فتح جهاز التلفزيون في المساء لنشاهد فيلم مصاصي الدماء والوحوش العجيبة الغريبة، وهي تلتهم البشر، وغيرها من المشاهد التي تقتل الأحاسيس، وتشجع على ارتكاب الجريمة.

إننا أمام واقع ينتشر فيه العنف والتعنيف والجريمة، وانتهاك إنسانية الإنسان، وأعني واقع عالمنا العربي، الذي يستورد أقبح الأفلام وأكثرها إسفافاً وأقلها جودة من شركات الإنتاج العالمية، ويعرضها ليملأ ساعات البث، التي للأسف أصبحت المحطات تتباهى بحقيقة أنها تبث على مدار الساعة، وفي الواقع هي تكرر العديد من برامجها، وتعيد عرض الأفلام والمسلسلات، بل حتى نشرات الأخبار، فلماذا البث على مدار الساعة؟

انطلاقاً من هذا الواقع الخطير نقترح مجموعة من النقاط:

أولاً: التوقف عن عرض أفلام الرعب وقفاً تاماً في محطات التلفزيون العربية، ومن يخالف ذلك، يحال إلى القضاء بتهمة التشجيع على العنف والجريمة.

ثانياً: إعادة النظر في أوقات البث، إذ ليس من الضروري استمرار البث على مدار الساعة، خاصة المحطات غير الخبرية، فما الجدوى من عرض فيلم رعب في الساعة الثالثة صباحاً؟ هل تعرض لجمهور قارة أمريكا مثلاً، سكان هذه القارة يكونون في أعمالهم، ثم إنهم ينظرون إلى هذه الأعمال نظرة سيئة ولا يحترمونها أبداً. حبذا لو عدنا إلى سابق عهدنا، حين كان التلفزيون يوقف البث في الساعة الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل، والاستمرار في وضع الشريط الإخباري أسفل الشاشة، وأن يتم تنظيم العمل بين العاملين عن طريق المناوبة، لبث ما يستجد من أخبار، أو نقل الأحداث العالمية الضخمة.

ثالثاً: أن يوقع أصحاب المحطات التلفزيونية على ميثاق شرف لمنع ما يسيء للأجيال، ويتحملوا مسؤولياتهم بشأن انتشار العنف والجريمة على نطاق واسع.

رابعاً: التوقف عن بث مشاهد القتل والعنف خلال نشرات الأخبار، حفاظاً على عدم تنامي العنف، ومن ناحية أخرى، لن تساعد هذه المشاهد على التعاطف أو مناصرة الشعوب المتضررة، وأكبر مثال على ذلك، أن التعاطف مع ما تعرضت له غزة في حربها الأخيرة مع جيش الاحتلال «الإسرائيلي» كان ضعيفاً على الرغم من مشاهد القتل والحرق والدمار التي تعرضت لها البيوت والنساء والأطفال. هناك وسائل أخرى أكثر تأثيراً لتعزيز الحس الوطني بين الناس.

خامساً: وكما أن شركات الاتصال بمقدورها حجب الأفلام الإباحية في وسائل التواصل الاجتماعي، فبمقدورها أيضاً حجب أفلام ومشاهد العنف والرعب.

سادساً، وهو الأهم: ضرورة مراقبة أولياء الأمور لأبنائهم ومنعهم من مشاهدة مشاهد العنف من أي نوع كان.

نحن في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في استراتيجيات وسائلنا الإعلامية، وتعاملنا مع وسائل التواصل الاجتماعي، حتى نحد من موجة العنف الشرسة التي بدأت تغطي عقول أبنائنا، أليس خطيراً أن يتناقل الناس مشهد حرق طيار عربي، ويوصون بعضهم بعضاً على مشاهدته في هذه الوصلة أو الموقع أو تلك، وقبل أن يحذفه موقع (يوتيوب)؟

إن ما نطرحه ليس له علاقة بحرية البث الإعلامي أو حرية المشاهدة، إنما له علاقة وطيدة بإنسانية الأجيال الصاعدة، فالعنف لغة الحيوانات المفترسة، وليس البشر.