&&محمد الرميحي &&&

الأسبوعان الفائت والمُقبل حافلان بالأحداث في الشرق الأوسط؛ الأول شهد زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى كل من القاهرة وإسطنبول وللزيارة معانيها الاستراتيجية، ثم تبعتهما قمة إسلامية في تركيا، ثم قمة خليجية يشهدها الرئيس الأميركي باراك أوباما. إنها مرحلة خطيرة من تاريخ الإقليم المضطرب، وخلال الأربع والعشرين ساعة القادمة تلتقي الأطراف اليمنية في الكويت للبحث عن حل، كما تقول بعض الأطراف، ولإعلان الحل، كما تقول أطراف أخرى.

قيل في تاريخنا الثقافي إن (الحكمة يمانية) وربما كان السبب في ذلك القول أن المجتمع اليمني قديم، وشهد العديد من الحضارات المختلفة، بل حتى الأديان المختلفة، فاختزن الكثير من تلك التجارب الإنسانية، إلا أن الشواهد تقول لنا في التاريخ الحديث إن اليمنيين المعاصرين ليسوا بالضرورة كاليمنيين القدامى، وإن ظروف اليمن الاقتصادية والتنموية ليست بـ(السعيدة) كما كانت توصف، فتلك حال واليوم حال أخرى.

انتعش التعليم في اليمن فمنذ أكثر من نصف قرن، وأقصد التعليم الحديث، لا التعليم التقليدي، فقد ظل كما هو تقريبًا لآلاف السنين قائمًا هناك. ولكن الحديث منه جلب تجارب جديدة في مجال الأجناس الأدبية، ليس في مجال الشعر، فاليمني في الغالب إن كان موهوبًا فهو شاعر، ولكن في صنف آخر من الأدب الحديث هو الرواية، التي تعد اليوم كتاب التاريخ الاجتماعي للشعوب، وعدد الروائيين اليمنيين والروائيات الذين أعادوا اكتشاف مجتمعهم ليس بالقليل، من بينهم نبيلة الزبير في روايتها «حذاء جديد لعائشة» هذه الرواية التي تعد كاشفة لجزء ليس قليلاً من معاناة المجتمع اليمني المعاصر. تقول لنا إحدى الفقرات في الرواية الآتي: «... من يقول إن الحادث المروري (في صنعاء) ما بين الساعة 5-7 مساء، يشبه الحادث نفسه ما بين الساعة 11- 2 قبل وبعد الظهر! الأخير قد يعالج بإطلاق نار، ولكن الأول يعالج برواق، وقد يتنازل أحد الطرفين، دون حتى أن يطلب تنازله، وقد يخرج المتضرر يده من شباك سيارته ملوحًا بالتنازل، من دون أن يقف أو حتى يعترف بأنه كان هناك حادث»! مقطع في الرواية التي تحمل كثيرًا من هموم المجتمع اليمني الحديث، معبر وكاشف للعلاقات الاجتماعية في اليمن عند تناول ذلك المنبه الذي أصبح عادة اجتماعية وموردًا اقتصاديًا، وفرصة للمسامرة، الذي اسمه (القات) الذي يجمع اليمنيين على السلام والطمأنينة والحوار والعفو أيضًا.

في المقطع السابق، وأرجو ألا يفهم الإخوة أهل اليمن أنني أشير إلى ذلك من موقف (علو أخلاقي أو انتقاد اجتماعي).. لا، فليس ذلك ما يشبهني، إنما هو حقيقة يعرفها الجميع، بإيجابياتها وسلبياتها طبعت المجتمع اليمني، وهي تنتج التناقض بين المسالمة والعنف.

الحقيقة أن العنف في اليمن ظاهرة (ثقافية) بل صناعة وطنية، وهو من أكثر العوامل تعطيلاً للمأسسة التي هي قاعدة الدولة الحديثة. فلا يوجد يمني في الغالب صغر في السن أو كبر، إلا ومعه نوع من السلاح، أقلها (الجنابية) الخنجر المعقوف، وبعضهم (الكلاشنيكوف) الذي جاء مع (الثورة اليمنية) في ستينات القرن الماضي. ومن جانب آخر المجتمع اليمني ليس واحدًا متماثلاً مصبوبًا في قالب، فهو مثل بقية مجتمعات معظم الدول العربية، متعدد ثقافيًا، وهذا التعدد ترك صفات على الشخصية اليمنية، فأهل حضرموت على سبيل المثال، هم من أوائل الجماعات التي (عولمت) الهجرة الإنسانية، بل أصبحوا (مصدرين للعقول) و(الأمانة) الشخصية، إلى كل من جنوب شرقي آسيا حتى كندا، ومثالاً في خليج العرب في الخمسينات وما بعدها، كانوا الأكثر ثقة للتجار الخليجيين، ولا يخلو محل تاجر خليجي في بداية العصر الذهبي للنفط، إلا ويكون القائم على الخزانة يمني من حضرموت. تاريخ الحضارم الذين أخذوا الثقافة العربية الإسلامية إلى جنوب شرقي آسيا، وأصبحوا مواطنين هناك، كسلطان بروناي ومهاتير محمد من أصول حضرمية وغيرهم، وحتى كان في وقت ما منذ أقل من ثلاثة عقود، اسم العائلة نفسه من كبار مسؤولي اليمن هو من كبار مسؤولي بروناي أو إندونيسيا أو ماليزيا. بل جموع اليمنيين هاجروا إلى ديترويت في الولايات المتحدة، وشمال شرقي إنجلترا، وكان أحد أبطال الملاكمة البريطانيين قبل سنوات من أصول يمنية! في العصر النفطي في الخليج أثرت العديد من العائلات اليمنية، وخاصة من التحق منهم بالمملكة العربية السعودية، التي هي وطن لأهل اليمن حتى يومنا هذا. يستطيع اليمنيون اليوم أن يغيروا أشياء كثيرة، إلا الجغرافيا، فالسعودية والخليج هما الأقرب إليهم والأكثر ترحيبا، وهنا تكمن معضلة الحوثي الذي يريد تغيير الجغرافيا!

اللقاء في الكويت للأطراف اليمنية يجب أن تكون فرصة لإيجاد رأس جسر لإبقاء اليمن دولة موحدة، وأيضًا وضعه على طريق النمو الاقتصادي؛ لأن ثقافة العنف التي يعدها بعض اليمنيين ثقافة مقيمة، لا تصلح ولا يمكن أن تنسجم مع سنوات القرن الواحد والعشرين، لأنها ببساطة لن تسود. يجب ألا يفهم أطراف الخلاف أن اليمن يمكن أن يبقى على الخريطة السياسية وهو في حال اقتتال! لا يرغب أحد اليوم أن يُقلب المواجع، إلا أنه من الضروري الاعتراف بأن عصري (الإمامة) و(صالح) لم يعودا هُما مستقبل اليمن، هما جزء من الماضي، ولكن ليسا جزءًا من المستقبل.

مستقبل اليمن هو القضاء على العنف وإقامة دولة حديثة بها (القدر الكافي من الحكم الرشيد) أي بكلمات أخرى، تفعيل ما اتفق عليه في الحوار اليمني، تفعيلاً حقيقيًا ورشيدًا، يضم الجميع في دولة وطنية مدنية عادلة، لها دستور حديث يقبل التعددية، ويقبل أيضًا التبادل السلمي للسلطة من خلال مؤسسات تُحترم من الجميع. دون هذا المسار، الذي يحتاج إلى شجاعة الرجال، سوف يقع اليمن فيما يعرف بالصراع منخفض الكثافة، ويصبح اليمن (دولة منسية وفاشلة) ينهش في أجزائها المختلفة الصراع على السلطة، وتتوزع القوة بين (أمراء حرب) بأسماء قبلية أو فئوية أو مناطقية مختلفة ومتناقضة، وقد يُجير استقلال اليمن لهذه القوة الإقليمية أو تلك، ويبقى اليمن مكانًا نازفًا لا أحد يتذكره إلا لمامًا، كجارته الصومال أو ربما أسوأ. يجب ألا يتوهم اليمنيون، وأعني قادة الحوار في الكويت، أن اليمن سوف يبقى محط اهتمام المجتمع الدولي، أو يبقى مكانًا للتنافر الإقليمي الذي يمكن أن تستفيد منه أطراف يمنية اليوم لكن ليس الغد، ذلك وهم عليهم جميعًا أن يتخلصوا منه وهم يقابلون بعضهم في الكويت بعد غد. وصل الوقت الذي يجب أن يتحلوا فيه بروح رواية نبيلة الزبير، فيتجاوزون روح فترة الضحى (بين 11- 2 ظهرا) ويتمسكون بفترة المساء (بين الخامسة والسابعة) التي تصفها الرواية بأنها (الموعد الذي تُجير لحسابه «في اليمن» كل الأوقات)! مع إضاعة هذا الوقت الذهبي، ربما يضيع اليمن دون رجعة، فهل تتحلى النخبة اليمنية بالحكمة وإنكار الذات، أما أن الحكمة لم تعد يمنية!

آخر الكلام:

يجمع مؤرخو الأدب في اليمن على أن أول رواية يمنية حديثة هي للشاعر محمد محمود الزبيري الذي رسم فيها الواقع المذهل والمرعب والمفرط في قسوته في اليمن (الإمامية) في النصف الأول من القرن العشرين، ومن اللافت أنه سماها (مأساة واق الواق) اسم محمل بالدلالات!!

&

&

&