&&عادل درويش&&

إذا سئلت أنا: «من يتصدر قائمة النفاق والرياء وازدواجية المعايير؟» لأجبت (بثقة وخبرة نصف قرن في الصحافة والسياسة) أنهم دعاة الفضيلة، وعلاة منابر الدعوة إلى الأمانة والصدق وقول الحق. نموذج يتكرر آخره وقع هذا الأسبوع.

لعدة سنوات ودعاة مكارم الأخلاق في الصحافة يشنون حملة تتزعمها الـ«بي بي سي»، والـ«غارديان»، منبرا اليساري المثقف (عادة ابن ذوات خريج أكسفورد أو كمبريدج) ملقين المحاضرات صباحا ومساء على الجهلاء من عباد الله، فقراء المعرفة والثقافة من أمثالنا، متهمين الصحافة التي تقرأها الأغلبية الساحقة من الشعب بانتهاك خصوصيات الناس، وفضح الساسة والمشاهير بنشر أمور مسائل يعتبرها المثقفون ليست في الصالح العام، بل تنشر بغرض زيادة توزيع الصحف بمخاطبة الغرائز الدنيا للناس الأقل تعليما، كالتشفي بنشر غسيل الناس القذر والتلذذ لحرج الآخرين.

هذا الاتهام من دعاة الفضيلة عبر ميكروفونات وكاميرات الـ«بي بي سي» أحرج الصحافة، وبلغ ذروته قبل ثلاثة أعوام بعد اتهام تحقيق في الـ«غارديان» الصحافة الشعبية بالتنصت على مكالمات الساسة والمشاهير. وأمرت الحكومة بلجنة تحقيق في ممارسات الصحافة أدارها القاضي ليفيسون (كلف دافع الضرائب أكثر من 35 مليون دولار) ثم تفرع عنه حملة مداهمة البوليس لبيوت الصحافيين بتهم حيازة غير مشروعة لمقتنيات الغير (صور مشاهير دون إذنهم) وإفساد الحياة العامة (منح بعض رجال البوليس هدايا وإكراميات مقابل معلومات) والتجسس على المكالمات. بلغ عدد الصحافيين المقبوض عليهم والمقدمين للمحاكمة في بريطانيا عام (2013/ 2014) ضعفي عدد الصحافيين الموقوفين في الصين وتركيا وزيمبابوي مجتمعين في الفترة نفسها.

أثارت القضية الرأي العام ضد الصحف الشعبية (لم تتناقص مبيعاتها مما أربك تحليلات المثقفين) وأدت إلى إغلاق واحدة من أعرق الصحف «نيوز أوف وورلد» وخراب بيوت 350 من العاملين فيها.

تحقيقات البوليس مع الصحافيين كلفت الخزانة 40 مليون دولار، وشغلتهم عن متابعة الجريمة والإرهاب (إلى جانب تكاليف عشرات المحاكمات التي لم تحسب بعد). بعد ثلاث سنوات والتحقيقات أسفرت عشرات القضايا عن إدانة ضابطة بوليس واحدة فقط بالحصول على رشوة من الصحافيين، وبرأت ساحة الجميع لغياب الأدلة.

أصبحت مسألة نشر خصوصيات الأفراد «عيبًا» بعد حملة الـ«بي بي سي» ومثقفي اليسار وجماعة ضغط (لوبي) كان أسسها نجم هوليوود هيو غرانت ضد تدخل الصحافة في خصوصيات المشاهير (اشتكى من طريقة تناول فليت ستريت، شارع الصحافة الإنجليزي، في تسعينات القرن الماضي لقضية توقيفه، من بعد أن ضبطه بوليس لوس أنجليس بتهمة «فعل فاضح في الطريق العام» في سيارة مع بائعة هوى سمراء، دفع لها حفنة دولارات. ومثل أمام القضاء ودفع غرامة).

بعد استياء الرأي العام أثناء تحقيقات لجنة ليفيسون، أصبحت الصحافة حساسة لهذه الاتهامات وأسست الصحف ديسك الـ(compliance) الالتزام بالمهنة، امتدادا للديسك القانوني (بعض الأخبار التي قد تعرضنا كصحافيين لمساءلة قانونية لا نمنع النشر كما تفعل بعض الصحف العربية، بل نعرضه على الديسك القانوني لموازنة المجازفة القانونية مع أسباب النشر كزيادة التوزيع أو كإقناع القاضي بأن الخبر في الصالح العام، إذا رفع أحد المتضررين قضية، أو إعادة الصياغة لتجنب المقاضاة).

يتحقق «ديسك الالتزام» من مطابقة الخبر للائحة أخلاقيات المهنة (وهي تطوعية وليست بقانون) ومنها عدم انتهاك خصوصية إنسان إلا إذا كانت هناك أدلة تثبت للمحكمة أن النشر من أجل الصالح العام؛ بجانب ألف باء المهنة وهي التأكد من صحة الخبر وتوثيقه بأدلة.

دعاة الفضيلة الصحافية أنفسهم «بي بي سي» وجماعة «هاكد أوف» (المتجسس عليهم) هاجموا الصحافة الشعبية، لأنها التزمت بأخلاق المهنة التي دعوا إليها، وامتنعت عن نشر خبر يفضح النائب قبل أن يصبح وزيرا بـ17 شهرا لخطأ لا ذنب له فيه!

كمعاقبة المعلم التلميذ لأنه أطاع لائحة المدرسة، ولم يقذف الأوراق الممزقة على تلاميذ الفصل المجاور!!

الحكاية أن وزير الرياضة والثقافة والتبادلات الصحافية، جون وايتينجديل، (أصبح وزيرا في يونيو (حزيران) 2015) عقب طلاقه في 2013، وجد نفسه وحيدا وشواغل البرلمان لا تترك له فرصة لقاء «بنت الحلال» فلجأ إلى «الخاطبة الإلكترونية» (أحد المواقع الالكترونية). على الموقع قابل حسناء لندنية وازدهرت الرومانسية لخمسة أشهر، حتى دسّ صحافي أنفه ليسأله عن علاقته بسيدة قد يعتبر البعض مصادر رزقها «غير أخلاقية»، أنهى النائب الجاد العلاقة فورا في فبراير (شباط) 2014 (17 شهرا قبل توليه الوزارة).

ما ذنب رجل صدق سيدة أعجب بها، ولم تصارحه بحقيقة مهنتها؟

لم يحصل منها على متعة مقابل مال.

رجل «في حاله» لم يتدخل في حياة الآخرين، أو يدعو للفضيلة بمكبرات الصوت، أو ينصح الناس كيف يقابلون عروس المستقبل.

ومن معلوماتي الصحافية: فشلت زميلة للسيدة عام 2013 في بيع القصة لستة صحف، ولسبب بسيط لم يكن هناك مبرر للنشر كالصالح العام أو اهتمام القارئ (هل يعرف مثلا قارئ «الشرق الأوسط» جميع أسماء الوزراء ووكلائهم ونواب البرلمان وصورهم في بلده مثلا؟).

الـ«بي بي سي» في فقرة طويلة «فضحت» الوزير في تهمة لم يرتكبها. وليومين كان هو الفقرة الأولى في نشراتها الإخبارية، ومنبرًا لـ«هاكد أوف» ومثقفي اليسار تهاجم الصحافة، لأنها لم تنشر خبرا لا يهم القارئ أصلا بشأن نائب لا يعرفه 95 في المائة من قرائها (حسب استطلاع الرأي). تهمة المثقفين واليسار وحملة «هاكد أوف» أن الصحافة احتفظت بالخبر «كسيف ديموقليس» مسلطا على رأس الوزير كورقة ضغط، لأنه يستطيع أن يدفع بما يريده اليسار، وهو إصدار قانون رقابة على الصحافة.

العكس هو الصحيح. هناك جدل حول احتكار الـ«بي بي سي» للتمويل الشعبي (رخصة التلفزيون نحو 200 دولار في العام) وهناك أصوات تقترح تحويل نسبة منها لشبكات ومحطات ضعيفة الإمكانيات، لإنتاج برامج غير تجارية لتوسيع دائرة مصادر تنوير وتثقيف الناس.. الـ«بي بي سي» وجهت ضربة إجهاضية لمشروع تمويل الشبكات الفقيرة من دخل الرخصة. فإذا تبنت الوزارة الاقتراح صاحت الـ«بي بي سي»: «شوفوا استغلال السلطة؟.... علشان فضحناه بينتقم من الهيئة».. نموذج مثالي للفضيلة ومكارم الأخلاق المهنية الصحافية التي تبنت منابر المثقفين ترويج دعوتها!

&

&

&