&&عبد الملك بن أحمد آل الشيخ&&

إن مفهوم «العدالة» كان غائبًا عن وعي النخبة المثقفة في الدول العربية التي سيطرت عليها بعد استقلالها حكومات عسكرية آيديولوجية. وكان التأثير الآيديولوجي يعرقل نظر تلك النخبة إلى العدل باعتباره قيمة إنسانية أساسية شاملة، يقوم عليها الحكم الرشيد وحفظ الحقوق، ويتم من خلالها الاستقرار والازدهار، ولذلك فإن من الطبيعي أن وقعت تلك الكوارث، سياسية واقتصادية، في أنحاء من العالم العربي، لا حل لها غير ترسيخ قيم العدالة وإرساء آلياتها. إذا كان النهوض الحضاري قلعة منيعة، فإننا لن ندخلها إلا من بوابة العدل المحكمة الأقفال، وقد أخفى مفاتيحها في السابق أصحاب الحكم العسكري وقانون الطوارئ والأحكام العرفية، وفي الحاضر مروجو ما يسمى بالربيع العربي، والمخربون الجدد من طائفيين وحزبيين مؤدلجين دينيين ولا دينيين..

وإذا عدنا إلى الوراء ونظرنا إلى الحكومات العسكرية المتعاقبة على بعض الدول العربية، منذ استقلالها، إلى يوم اندلاع ما يسمى بالربيع العربي، نجدها اتسمت بالحكم العسكري الآيديولوجي الاستبدادي الشمولي، الذي ينطلق من وهم المعرفة أكثر من المعرفة ذاتها. ووهم المعرفة أخطر من الجهل، لأن متوهم المعرفة جاهل لا يدري بجهله، وشخصية العقيد القذافي ومهزلة كتابه الأخضر مثال حي على ذلك.

وارتبط العدل لدى الحكومات العسكرية آنذاك بمرادفات أخرى، منها العدالة الاشتراكية، وهو التفسير الآيديولوجي للعدالة بعد تفريغها من جوهرها الإنساني الشامل، فيستقيم مع هذا المصطلح، مثلاً، نهب ثروات الوطن ومصادرة ممتلكات الشعب واستعباد أهله باسم تلك العدالة.

وبعد استقلال الكثير من الدول العربية، وانتهاء حقبة الانقلابات، حكمت الحكومات العسكرية شعوبها بالحديد والنار، ولعقود طويلة سفكت فيها الدماء وهتكت الأعراض، ونهبت ما استطاعت نهبه من ثروات الأوطان ومقدراتها الاقتصادية والبشرية. ولم تفلح في التقدم ولو خطوات على دروب التنمية المنتظرة، التي اكتشفت الشعوب فيما بعد أنها كانت شعارات جوفاء، وفقاعات صوتية خاوية، تستخدم للاستهلاك السياسي خارجيًا، واستدرار العواطف داخليًا. ولم تفعل تلك الحكومات بالثروات الاقتصادية التي وضعت عليها يدها غير كنزها في البنوك الأجنبية، بما يتوافق مع انغلاق الجيل الأول من قيادات الانقلابات العسكرية، واحتكاره للأرض وما عليها وما فيها، ووصل اقتصاد تلك الجمهوريات العربية إلى حافة الهاوية، فانتشر الفقر وزادت البطالة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط الشيوعية، ما نتج عنه ولادة جيل جديد داخل تلك الأنظمة العسكرية الحاكمة مغاير لعقلية الجيل الأول، بل ويبحث بدأب عن منافذ أكثر فعالية لاستثمار الثروات المنهوبة وتشغيلها للبقاء ما أمكن في السلطة، ويسن في سبيل ذلك القوانين التي تتيح له السيطرة على ما تبقى من كيانات اقتصادية لم تنهب بعد.

وهكذا ولد في هذه الدول ما يسمى «اقتصاد السوق» ولادة مشوهة، كونه ولد بعيدًا عن مفهوم «العدالة»، التي تضمن حقوق الإنسان ومقومات السوق الحرة، من طبقة وسطى وتنافسية وتكافؤ للفرص، ورفض للاحتكار، والاحتكام إلى القانون الصريح الحارس والمعزز لتلك المقومات، فحرص الجيل الجديد على إبقاء قانون الطوارئ والأحكام العرفية الذي يشد القبضة على البلاد والعباد، مع تبنيه فكرة التحرر الاقتصادي بالحجم والشكل الذي يناسب أعماله ومصالحه، فنتج عن ذلك نماذج لجمهوريات شمولية ومستبدة، بسمات وملامح جديدة. وتم النظر إلى المال على أنه هدف وتم الحط من قدر القيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية، واستمر النهب والتوحش الرأسمالي وزاد الفقر والحرمان، لا باسم الاشتراكية كما كان، بل باسم الحرية الاقتصادية والسوق المفتوحة. لذلك كان سقوط تلك الدول قويًا وانتقام الشعوب مجلجلاً.

في مقابل ذلك، نجد أن الدول العربية التي كانت بمنأى عن مفهوم العدالة الاشتراكية والآيديولوجيات الحزبية، كالسعودية مثلاً، حققت نهضة مواكبة لتطلعات شعوبها وطموحاتها، من خلال تمسكها بمفهوم العدل ما استطاعت، الذي يقوم عليه الحكم الرشيد، فعملت على تحقيق العدل من خلال تطبيقها لأحكام الشريعة وتأكيدها على حفظ الضرورات الخمس في الإسلام التي تحدد مقاصد القانون الأخلاقي وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، وقامت بمحاربة الظلم أينما وجد، واتخذت ذلك هدفًا ساميًا، وقيمة عليا، مستمدة من إقامة القسط، الذي جاءت به الشريعة الإسلامية: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»، (سورة الحديد) الآية 15.

فلا غرابة إذن، أن تجدد السعودية نفسها من خلال برنامج تحول وطني طموح يرسم مستقبلها بتنويع مصادر الدخل وإشراك القطاع الخاص في ذلك وبقوة، تلك القوة المنضبطة أخلاقيًا فلا تغول للشركات وتوحشها في وجه المواطن البسيط، ولا تلاشٍ لطبقة وسطى ولا مكان للاحتكار بل تعزيزُ لتنمية اقتصادية واجتماعية وحقوقية متوازنة، تجعل من المواطن الكريم شريكًا في تحقيق أهداف برنامج التحول الوطني لا خصمًا حلوبًا كما يراد له أن يكون من قبل بعض المتبنين للرأس مالية المتوحشة، فكسب العقول بالعدل مقدمًا على ملء الجيوب، فبينما تتسم الفلسفة الاقتصادية الليبرالية المتزنة، بالتجارة الحرة والحركة الحرة لرأس المال والخصخصة التي يواكبها قوانين تحمي المنافسة الشريفة وحماية المستهلك، نجد البعض يحصرها في الرغبة في تعظيم الربح وتراكم الثروة من أجل الثروة ذاتها على حساب العدالة الاجتماعية المنشودة (وهو ما يفسر اللاعقلانية الملحوظة كثيرًا لدى الرأسمالية المتوحشة). تؤكد السعودية من خلال إطلاقها برنامجها الطموح لسعودية الشباب والمستقبل، على ما قامت عليه هذه الدولة، فقد أسس الملك عبد العزيز، رحمه الله، دولته على الشريعة الإسلامية وأسسها الأخلاقية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية وسار على نهجه أبناؤه من بعده وصولاً لعهد الملك سلمان بن عبد العزيز المؤسس لمفهوم «الاستدامة التنموية» للدولة السعودية المتجددة. ففي الجانب الاقتصادي على سبيل المثال، قعد الملك عبد العزيز، رحمه الله، لاقتصاد الشريعة الأخلاقي ومن أهمها أن حفظ المال «الملكية والثروة وإنمائها» يمثل إحدى الضروريات الخمس التي أسست بنية النظام الشرعي في الاقتصاد السعودي، وفي المقابل فرض الزكاة الشرعية وحرر السوق وفقًا لقواعد شرعية أخلاقية منضبطة وقد أوجد ما يمكن أن نطلق عليه اقتصادًا رأسماليًا أخلاقيًا، تحقيقًا لقول الحق تبارك وتعالى «إن المتقين في جنات وعيون. آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم» (الذاريات آية 15 – 19). وإذا تأملنا ما آلت إليه الحال في كثير من البلدان العربية ومن خلال تحقيق مفهوم العدالة الاجتماعية وبعد قراءة متأنية لمشروع التحول الوطني، فإن الحقائق وواقع الحال لدينا نحن السعوديين تؤكد لنا أن العدل كما هو أساس الملك والاستقرار لدولتنا (الدولة السعودية) في الماضي والحاضر، هو أيضًا ركيزة أساسية للاستقرار والاستدامة في الدولة السعودية المتجددة!

&

&