عبدالله بشارة&

قضيت خمسة أيام في الرياض مشاركاً في لقاء «سعود الأوطان» تسجيلاً تاريخياً لمسار المغفور له سعود الفيصل، وزير خارجية المملكة العربية السعودية، جامع الأبهة بالموهبة، والملوكية بالتواضع، والذكاء بالبساطة، والوسامة بالاستقامة، في حشد ملوكي يتقدمه الملك سلمان، ضم أبناء الأسرة وكبار رجال الدولة الحاضرين والمتقاعدين وسياسيين عرب، عرفوا الأمير وعملوا معه، وصحافيين ومعجبين، وأصدقاء، في قاعة الملك عبدالعزيز للمؤتمرات التي تفوقت في الأبهة على قاعة المرايا في قصر فرساي في فرنسا.

كان المؤتمر سباقا على ابراز المعاني في مسار الامير الراحل، بين من عرفه من السياسيين وبين من التصق به من أشقاء وأصدقاء، واستمعت إلى الكثير عن أمير الندرة، منهم من أبدع مثل أخيه خالد الفيصل في قصيدته التي ألقاها بصوت يتدفق بأحزان الكبار عبر فيلم تسجيلي رائع، ومن أخيه تركي الفيصل؛ متذكراً بعض المواقف من ابداعات الظرافة التي يتقنها الأمير الراحل.

كان البرنامج مزدحماً بورش العمل التي تلتقي في وقت واحد لتتناول مسارات مختلفة من حياة الأمير وانجازاته وفي مختلف المنتديات العربية والعالمية.

كان دوري عن الأمير في مجلس التعاون، وقدمت فيه عقيدة الأمير عما يجب أن يكون عليه مجلس التعاون، في إصراره على الترابط مع الجامعة العربية ورفع قضاياها والانصهار في قضايا العرب، وكان يصر على الشراكة الخليجية-العربية، ويذكرني بضرورة احترام سيادة الدول الأعضاء، ومراعاة قدرتها على تنفيذ القرارات دون مضايقة، مع وجوب إدخال الاطمئنان لدى الجميع، واشعارهم بمنافع المجلس مع ملاحظة البدء في خطوات التعاون تدريجيا لترتفع إلى مراحل لاحقة.

كان يقول: «صيغوا البيانات والقرارات بأسلوب يجعل كل طرف قانعاً بالحصيلة ليس فيها ما يحرج ولا يزعج».

تحدث آخرون عن منظوره في الجامعة العربية، ودوره الاقتصادي، ومسؤولياته في التفاهم العربي، وحماسه لقضية فلسطين ودور القيادة السعودية في استحضار الجانب الأميركي لايجاد حل مقبول، لكن تلك المساعي عطلتها عملية ارهاب سبتمبر 2001.

تجربتي الشخصية مع الأمير سعود أتاحت لي معرفة سلسلة الأفكار التي يريدها لمجلس التعاون، ولم أكن، بكل صراحة، أتناغم كثيراً معها، كنت أسعى لانهاء عضوية العراق البعثي في المنظمات الخليجية من تعليم وإعلام وصحة وغيرها، فقد استخدمها نظام صدام جسرا لنشر الأفكار وبناء قواعد شعبية وبعثية تتيح له التوسع، ولم يكن الأمر سهلا، فالخجل والمجاملات وتحاشي الاحراجات وكلها صفات خليجية استفاد منها صدام حسين.

كنت أريد تحصين المجلس من تسلل أيديولوجيات البعث والتطرفات القومية، وكان يرى الخوض في بطنها لتعرية عجزها وعقم أفكارها وعنف مفرداتها.

كنت أؤمن بفاعلية الاعتدال الخليجي في التفوق الاقليمي والعربي، وكان يؤمن بالتواجد القيادي الخليجي المقتحم لأساليب المتطرفين، وكان الأمير من المؤمنين بأن الحجة الخليجية والتحليل تكشفانهم وتقزمان منطقهم.

سحب الغزو العراقي الستار عن الضحالة الفكرية والفقر الأخلاقي والافلاس السياسي لدى بعض الزعامات العربية التي بعضها فرح له، وبعضها جامله، وبعضها جبن لتتهرب من مسؤولية الادانة.

وبعدها أصبحت اجتماعات الجامعة العربية تنتظر الأمير سعود؛ ليفك طلاسم المفردات ويصيغها بلغة الاعتدال البناء مع انحسار لحماس في التعبيرات والتوجه لنزعة واقعية تشكل عنوان الدبلوماسية الخليجية.

يحصر النظام الأساسي لمجلس التعاون العضوية في دول الخليج العربية، مع علاقات خاصة لأنظمة مماثلة، وكنت وفيا لهذا الواقع، وكان الأمير سعود حليفا لهذا النص، داعيا لخصوصية منفردة للمنسجمين مع المسار الخليجي.

«سعود الأوطان»، لقاء استثنائي جمع عربا وغيرهم، اعجابا برجل فذ، وتخليدا لروعة انجاز، وتحفيزا لجيل قادم يقتدي بمآثر عملاق سيظل متربعاً على هذا الفضاء.

&

&