السيد يسين&

لا يمكن تفسير السلوك السياسى للفئات الشاردة من المعارضة، التى تمثلت أساسا فى رفض سياسات الدولة التنموية، والدعوة إلى مظاهرات حاشدة بمناسبة حكاية الجزيرتين إلا بأنه فى الواقع حنين إلى حقبة الفوضى التى سادت مصر عقب ثورة يناير وإلى السلوك العشوائى الذى أصبح مميزاً لمن يطلق عليهم الناشطون السياسيون، سواء كانوا من العجائز أو من الشباب!.

فى مرحلة من مراحل تعثر ثورة 25 يناير سادت ما يمكن تسميته سياسات الشارع Street Politics بمعنى أن تتخذ القرارات السياسية فى قلب ميدان التحرير.

&وقد شهدنا مناظر كوميدية فى الواقع لبعض مشاهير الناشطين السياسيين وهم يشكلون الوزارة على أنغام «الشيشة»، ويختارون فلانا باعتباره الجدير بأن يكون رئيسا للوزراء! بل إن الخيال الفوضوى اشتد ببعضهم لدرجة تسمية أشخاص بذواتهم وأسمائهم ليكونوا وزراء!.&

والغريب حقا أن تنجح سياسات الشارع فى هذه الحقبة الفوضوية فى تسمية أحدهم ليكون رئيساً للوزراء مع أنه لا يصلح ليكون مجرد وزير من الوزراء!.&

ومما لا شك فيه أن الشعب المصرى الذى قام بثورة 25 يناير ونجح فى إسقاط النظام السلطوى «لمبارك» قد دفع ثمن هذه الاختيارات العشوائية.

&اندمج النشطاء السياسيون فى هذا العبث الفوضوى، ولم يدركوا فى الوقت المناسب أن جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية صاحبة التنظيم الحديدى تخطط بجدية ودأب للقفز على قطار الثورة المسرع لا لاختطاف الدولة فقط ولكن لهدمها من الأساس، تمهيداً لنزع طابعها المدنى وتأسيس دولة دينية تكون محور عملية استرداد الخلافة الإسلامية وهو الحلم المجنون الذى حلم به «حسن البنا» مؤسس الجماعة، وتوارثه بغير تدبر عقلى مرشدو الجماعة المتتابعون الذين أعلنوا علنا كفرهم بالوطنية وإيمانهم فقط بالأممية الإسلامية. وهذا ما جعل أحد مرشدى الجماعة الأستاذ «مهدى عاكف» يصيح صيحته الشهيرة «طظ فى مصر واللى فى مصر أنا مستعد أن يحكم مصر ماليزى مادام مسلماً».

&بقيام الموجة الثورية فى 30 يونيو والتى كانت فى حقيقتها انقلابا شعبيا ضد الحكم الديكتاتورى لجماعة الإخوان المسلمين، والذى حظى بدعم جسور من القوات المسلحة بدأت موجات الفوضى تنحسر، وعادت الهيبة لمؤسسات الدولة من جديد. وشعر المصريون بالأمن الذى انهار فى غمار عمليات الفوضى، وبدأ الرئيس «السيسى» بمشروعه باعتباره رئيسا لدولة تنموية قررت أن تقوم هى بالتخطيط وتنفيذ المشروعات التنموية مع عدم استبعاد القطاع الخاص، واستطاع فى فترة وجيزة حقاً استعادة مكانة مصر العربية والدولية، وأصبحت مصر من جديد أحد مفاتيح السياسة العربية للدول الوطنية التى لم تصبها الانهيارات التى لحقت بعديد من الدول التى اجتاحتها الهبات الثورية مثل ليبيا واليمن وسوريا بالإضافة إلى العراق.

&ليس ذلك فقط بل إنه استطاع التجديد الثورى لسياسات مصر الخارجية بعد أن أقام علاقات وثيقة مع روسيا والصين وفرنسا وألمانيا.&

وبدأت عملية الإنتاج فى الدوران، وانحسر دور الناشطين السياسيين خبراء المظاهرات الغوغائية والمعارضة للمعارضة.&

ثم بدأت تتصاعد صيحاتهم أن الرئيس «السيسى» ليست له رؤية معلنة. ولكن عندما أعلن «السيسى» خطة «تنمية مصر 20- 30» فى اجتماع علنى عام أصابهم الخرس أحزابا سياسية وناشطين سياسيين ومنظمات مجتمع مدنى ممولة من الخارج، فلم يقدموا عنها أى قراءة نقدية ولم يتقدموا للشعب بأى سياسة تنموية بديلة لما طرحته الدولة التنموية، مما يدل دلالة أكيدة أن هذه الفئات الشاردة شعارها المعارضة لأجل المعارضة، والبحث اليائس عن مكان مرموق فى العملية السياسية!.&

والواقع أن الرؤية الاستراتيجية التى أعلنها الرئيس «السيسى» كانت تقتضى من كل مؤسسات المجتمع أن تتناولها بالقراءة النقدية، وأن تقدم سياسات بديلة للسياسات التى تضمنتها إذا ما قدر أن هذه السياسات لن تشبع الحاجات الأساسية لجماهير المواطنين الذين خرجوا فى ثورة يناير مطالبين بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية. وقد قمنا فى «المركز العربى للبحوث» ــ الذى أتشرف بإدارته مع مجموعة مختارة من الخبراء ــ بتأليف كتاب جماعى سيصدر فى القريب العاجل عنوانه «الدولة التنموية: رؤى نقدية وسياسات بديلة». وهو يضم ثلاثة عشر فصلا متكاملة تناقش الموضوعات التالية: النظام السياسى للدولة التنموية، توجهات السياسة الخارجية، رؤية لبناء القدرة على المنافسة والتشابك الاقتصادى مع العالم، الممارسة السياسية: الواقع والمتطلبات، المشكلات الاجتماعية الراهنة، سياسات الشباب، الأوضاع الثقافية، نحو سياسة ثقافية جماهيرية، تطوير السياسات التعليمية، ترشيد السياسات الإعلامية، دور الإعلام فى مواجهة الإرهاب، المحليات: الواقع والمأمول، وأخيرا مجلس النواب المصرى وتحديات الطاقة: القدرة على المواجهة.&

وهكذا يتضح أن الكتاب -وفق منهج محدد- يعتمد على التوصيف الدقيق لكل مشكلة من المشكلات الكبرى التى تواجه المجتمع حاليا، وبعد مناقشة مختلف أبعادها يقدم سياسة بديلة قابلة للتنفيذ وضعا فى الاعتبار الخبرة الدولية والإقليمية والمصرية.&

ونحن فى الواقع نريد من هذا الكتاب أن نرسى مبدأ سياسيا من الأهمية بمكان أن يستقر فى الديمقراطية المصرية الوليدة بعد 30 يونيو والتى نتمنى لها أن تنتقل -بعد دراسة وافية- من «الديمقراطية النيابية» التقليدية التى وصلت إلى منتهاها فى مختلف بلاد العالم إلى «ديمقراطية المشاركة» - وهى نموذج بازغ يحاول ترسيخ قواعده فى العالم ويقوم على أساس إشراك المؤسسات الاجتماعية المختلفة فى اتخاذ القرار السياسى والتنموى وفى مقدمتها الجامعات ومراكز الأبحاث والأحزاب السياسية بعد أن تتحول إلى أحزاب تنموية، ومنظمات المجتمع المدنى بعد أن تطور أساليبها وتنزل إلى الشارع للدفاع عن الحقوق الاقتصادية للمواطن، والمثقفين بجميع مؤسساتهم.

&وهكذا يخرج القرار -سياسيا كان أو تنمويا- بناء على حوار مجتمعى واسع مما يعطيه قيمة كبرى لأنه سيصبح بذلك ملزما بجميع الأطراف.

&إن كتابنا «الدولة التنموية» رسالة لكل أطراف المجتمع مفادها أن المعارضة لا يجوز أن تمارس من أجل المعارضة، ولكن بغرض ترشيد القرار. وهذا الترشيد لا يمكن أن يتحقق إلا بالتطبيق الدقيق للنهج العلمى من جانب، واللجوء إلى المتخصصين فى فروع العلم الاجتماعى من جانب آخر.

&بعبارة أخرى نحن بصدد القيام بعملية نهضوية كبرى تنقل مصر المحروسة من حالة التخلف التى ترسف فيها إلى مصاف الدول المتقدمة عالمياً. وفى هذا المجال ليس هناك أى مجال للجهلة أو أنصاف المتعلمين أو المتعلمين الأدعياء الذين يزعمون قدرتهم على تقديم الحلول السحرية لمشكلات مصر المزمنة!