&&عادل درويش&

&مشاركتي في برامج فضائيات عربية أثارت سؤال الموازنة بين جذب المشاهدين وتزويدهم بالمعلومات، حتى لا ينزلق البرنامج بعيدًا عن جوهر الموضوع.

بدا الالتباس في تغطية كثير من القنوات والفضائيات لانتخابات المجالس البلدية (في كل أنحاء المملكة المتحدة)، وانتخابات المجالس البرلمانية القومية في اسكوتلندا وويلز وعمد (جمع عمدة) العاصمة لندن، وعدد من المدن الكبرى. لاحظت تعثر الجيل الجديد من الصحافيين العرب إيجاد ترجمات دقيقة مفهومة للمتفرج لكلمات مثل «عمدة» أو رئيس مجلس، ليس فقط لقصر اللغة العربية في التطوير اللغوي (اللغة المكتوبة تختلف مفرداتها وقواعدها عن لغة الكلام اليومية، ويجد الصحافيون - وهم «صنايعية» تطوير اللغة لتلائم العصر - أيديهم مغلولة بسبب حراس اللغة ذوي البأس الشديد في ديسكات التحرير الصحافية)، بل أيضًا لأن أي صحافي دون السبعين من العمر لم يختبر مفصليات العمليات الديمقراطية الانتخابية لتغير الحكم (كما كان يحدث في مصر قبل انتخابات 1957، والعراق قبل انقلاب 1958... إلخ مثلاً).

سمعت مذيعة في فضائية عربية كبرى تستخدم تعبير «مقاطعة ويلز» بينما هي «إمارة ويلز»، بلد له حكومة وبرلمان، منتخب وفرق رياضة باسم ويلز في البطولات الدولية. ويلز جزء من المملكة المتحدة، وليس مقاطعة مثل يوركشير مثلاً. وأذكر أن تلاميذ المدارس الابتدائية في مصر قبل 1958 كانوا يعون الفارق بين بريطانيا العظمى (من الجزر العظمى لا الجبروت) المكونة من إنجلترا واسكوتلندا وإمارة ويلز (بلدان مختلفة عواصمها بالترتيب: لندن، أدنبره، وكارديف)، والمملكة المتحدة (تتكون من بريطانيا العظمى وشمال آيرلندا) في حين أن الجزر البريطانية (مجموعة جزر في بحر الشمال وشمال الأطلسي والقنال الإنجليزي وبعضها بلدان مستقلة كجمهورية آيرلندا مثلا).

وإذا كان الخطأ الشائع المفهوم أفضل صحافيًا من السليم غير المفهوم، فالأمر يتعلق باللغة وليس بالحقائق السياسية والمعلومات الجغرافية والتاريخية. فتسمية عاصمة كندا تورونتو وليس أوتاوا (الخطأ الشائع اعتبار أشهر المدن أو أكبرها العاصمة) فيضلل المشاهد ويعمق جهله.

بريطانيا مثل أي بلد ديمقراطي غربي آخر أثناء الانتخابات؛ يلعب الجميع الحيل. الأحزاب تحاول أن تروّج لنفسها وكأنها المثالية في الاقتصاد والخدمات وطبعًا الأخلاق، بينما تحاول أن تلطخ سمعة المنافسين من الأحزاب الأخرى.

المنافسة دائمًا، سواء في الدوائر أو على مستوى البرلمان أو على منصب خطير، كعمدة العاصمة، ستظل محصورة بين الحزبين الكبيرين: المحافظين والعمال، بينما الأحزاب الأخرى مثل الكومبارس مهمتهم إظهار مدى بطولة البطل، ومدى شر وفساد الشرير، لكن بلا كومبارس لا يكون هناك فيلم أو عرض.

ما يعقِّد المسألة على فهم الفضائيات العربية أن حزب العمال منشق على نفسه، لأن اليسار من جذور الحزب اختار زعيمًا - رغم أنف نواب الحزب في البرلمان - يجيد حشد المظاهرات والاحتجاجات، لكنه غير قابل للانتخاب جماهيريًا. فالناخب الإنجليزي ليس عاطفيًا، أولوياته عند التصويت لاختيار حكومة أو نائب هي الاقتصاد، فالخدمات وأولها الصحة والمواصلات والتعليم.

في الأيام السابقة لانتخابات ويلز واسكوتلندا والأقاليم واجه حزب العمال النقد بتهمة معاداة السامية بعدة تصريحات من ساسته اليساريين (وهم لا يختلفون كثيرًا عن بقية تيارات اليسار البريطاني) في الخلط بين سياسات حكومات إسرائيلية فيها انتهاكات للقانون الدولي، والمواطنين الإسرائيليين واليهود عمومًا، مثل اقتراح أحدهم بـ«ترحيل الإسرائيليين من إسرائيل إلى أميركا»، والآخر بادعاء مقولة محل نقاش لم يثبت صحتها، وهي أن «أدولف هتلر كان صهيونيًا» (أصل الحكاية لقاء ومراسلات هتلر والحاج أمين الحسيني مفتي القدس، وبعض ما كتبه مؤرخون بأنه لو كان يهود ألمانيا هاجروا لفلسطين لما وقعت المحرقة)... إلخ. وهذا ليس موضوعنا. الموضوع أن اليسار يستخدم كلمة «صهيوني» بدلاً من «يهودي» لتجنب تهمة معاداة السامية، وهم يقصدون الأخير لا الأول (وفي حالات كثيرة تجد الشخصيات اليهودية محل اتهام اليسار ليس لها موقف آيديولوجي يمكن وصفه بالقومي، أي الصهيوني).

تصعيد الأزمة صحافيًا وفي وسائل التواصل الاجتماعي كان محاولة من المحافظين للإضرار بسمعة العمال (مواقف سلبية كمعاداة السامية والإسلاموفوبيا أو تشويه صورة المسلمين، ومعاداة الأقليات ترتبط في ذهنية الرأي العام البريطاني بالعنصرية والفاشية).

في مقابلات إذاعية وفضائيات عربية ظهر خطآن أساسيان، أحدهما مهني (يتعلق بتدريب الصحافيين)، والثاني معلوماتي يتعلق بخطأ الفهم أو الهوس بنظرية المؤامرة.

أضاعت هذه البرامج فرصة شرح الأمر للمستمعين والمتفرجين العرب، وتقديم نموذج عن العمل الديمقراطي، خصوصًا على المستوى المحلي البلدي، أي الجذور الشعبية والخدمات في الأحياء والمجالس البلدية.

لاحظت تركيز معدي البرامج وأسئلة المذيعين على تهمة معاداة السامية، وكأنها قضية سياسة خارجية تتعلق بـ«دعم الغرب لإسرائيل»، رغم تكرار محاولات إعادة المناقشة إلى مسار تنافس الساسة واستغلال التغطية الصحافية. وتكررت عبارة «اللوبي الصهيوني في بريطانيا» (وهي خرافة، فلا وجود للوبي منظم هنا في بريطانيا كحال منظمة «أيباك» مثلا في أميركا). وقد يكون وهمًا في أذهان معدي البرامج، لكن الأمر فيه تضليل للمشاهدين والمستمعين، لأن المعلومات خطأ. كما أن بعض البرامج اتجهت إلى ما يمكن تلخيصه في «اشمعنى اليهود يشعلون الدنيا لمعاداة السامية بينما لا يهتم أحد بالإسلاموفوبيا؟»، وهو أيضًا خطأ معلوماتي. فأكثر التيارات والجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية تأييدًا للمسلمين في مناهضة أي اضطهاد أو ما يُسمي «إسلاموفوبيا» هي الجمعيات اليهودية، لأنهم كأقلية دينية يرون مصلحة في التحالف مع المسلمين والمطالبة بمدارس دينية خاصة (تُدعم من الحكومة) ومعاملة ثقافية خاصة. كما أن هناك أمثلة ونماذج لا تُحصى عن رسميين وموظفين فُصلوا من أعمالهم بتهمة التفرقة ضد مسلمين (مئات من المدارس غيرت احتفالات ميلاد السيد المسيح من مناسبة دينية إلى مناسبة فنية متعددة الثقافات حرصًا على مشاعر المسلمين، مما أثار امتعاض أولياء الأمور المسيحيين).

وفسر الصحافيون فوز صديق خان كأول عمدة مسلم للندن بتصويت المسلمين له، والحقيقة أن برنامجه كان أكثر تفصيلاً ومناسبًا لمدينة كوزموبوليتينة متعددة العرقيات، من برنامج منافسه، ولا علاقة لدينه بالأمر.

الخلاصة أن كثيرًا من الصحافيين العرب في حاجة إلى تدريب، ليس مهنيًا على صياغة الخبر والحياد والتوازن وغيرها، بل على ثقافة المكان الذي يغطون أحداثه والحقائق السياسية والتاريخية لفهمها، وإيجاد المدخل المناسب للاستحواذ على اهتمام المتفرج والمستمع كي يستفيد من التجربة، بدلاً من تضليله بمعلومات لا أساس لها من الصحة.

&

&

&