&عبد الله السناوي

&السؤال عما تبقى من الثورة، أي ثورة، يفترض أن تكون تجربتها استُوفيت أو مر وقت طويل نسبياً على وقائعها. الوقت مسألة ضرورية حتى يمكن النظر بإمعان في تجربتها، والتقييم بعمق لحصادها.

بحكم الزمن لم يمضِ وقت طويل على الأحداث الدراماتيكية العاصفة في «يناير/كانون الثاني» التي أطاحت نظاماً، لكنها لم تؤسس لنظام جديد.

ما بين الشرعيتين الثورية والدستورية تعثرت بفداحة، فلا أخذت الأولى مداها ولا وقفت الثانية على أرض.لم يكن لثورة «يناير/كانون الثاني» في عام (2011) أي مفاهيم واضحة ومبادئ معلنة ولا بنى تنظيمية مستعدة لتسلم مسؤولية الحكم.

بقدر جاذبية الأهداف العامة في الحشد والتعبئة، فإنها انطوت على ثغرات سمحت باختطاف الثورة نفسها.

كان ممكناً لكل من يتكلم أن يؤكد التزامه بالعدالة الاجتماعية من دون أن يكون معلوماً ماذا يقصد بالضبط. وكان ممكناً التلاعب بقضية الحرية، ما لم تكن هناك قواعد دستورية ملزمة تصون مدنية الدولة وتضمن ديمقراطية الحكم.

هكذا اختطفت «يناير/كانون الثاني» من بين ثغراتها الواسعة، وبدت مصر أمام أشباح الاحتراب الأهلي. رغم ذلك كانت تجربتها العميقة وراء التغيير الكبير في (30) يونيو/حزيران، الذي أطاح جماعة الإخوان من السلطة.

«يونيو/حزيران» مستحيلة تماماً ما لم تكن هناك «يناير/كانون الثاني»، وأي كلام آخر تحليق في الأوهام. في «يناير/كانون الثاني» تطلعت مصر إلى نظام جديد يلحقها بعصرها. وفي «يونيو/حزيران» دعت إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة.

التطلع إلى الحرية من طبيعة الثورات الحديثة. قد تخفق وقد تختطف لكنها تنتصر في نهاية المطاف.

في «يونيو/حزيران» أثبتت مصر بحشودها المليونية غير المسبوقة، أنه يمكن استرداد ما اختطف، وحساب من اختطف. ورغم ما تعرضت له «يونيو/حزيران» من اختطاف جديد لأحلام «يناير/كانون الثاني» فإن القصة لم تكتب فصولها الأخيرة بعد.

ذلك ليس جديداً على التاريخ المصري الحديث الذي شهد تراجعات فادحة، قبل أن يصحح مساره مرة بعد أخرى.

في عام (1882) احتُلت مصر وأجهِضت الثورة العرابية. ران صمت طويل وبدا أن كل شيء انطفأ.

عندما عاد زعيمها «أحمد عرابي» من منفاه، وجد من يجحد دوره وينكل بتاريخه ويهزأ بشخصه.

ذات مساء وهو يخرج من جامع يصلي فيه، هتف شاب وطني تأثر بالدعايات ضده: «يا خائن». مسح بصقة على وجهه وندت من عينيه دمعة.

انتظرت الثورة العرابية سنوات طويلة حتى رد اعتبارها بعد سقوط أسرة «محمد علي».

في ثورة (1919) تبلور هدفان: الاستقلال والدستور. دفع المصريون فوائض من فواتير الدم للحصول على دولة مستقلة دستورية.

بالأرقام: عدد الذين استشهدوا في (1919) أكثر ممن استشهدوا في (2011) رغم الزيادة الهائلة التي طرأت على عدد السكان. مع كل تلك التضحيات لا الاستقلال تحقق ولا الدستور جرى احترامه.

لا يعني ذلك أن الثورة أخفقت وأن تضحياتها ذهبت سدى.. قوة الثورات فيما تثيره من تفاعلات، لا سابق لها في بنية مجتمعاتها وتغيرات عميقة في النفسية العامة.

بهذا المعنى كانت (19) ثورة عظيمة ألهمت فناً وثقافة، وأفسحت المجال لدخول عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى بثقة أكبر في النفس. لم تعد مصر بعدها كما كانت قبلها.

«يوليو/تموز» ابنة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وطلبها التحرير الوطني هو نفسه طلب العالم الثالث كله، وسعيها للعدل الاجتماعي هو نفس سعي الشعوب المقهورة.

لم تخترع «يوليو/تموز» مشروعها، فخطوطه الرئيسية تحددت في المجرى العام للحركة الوطنية المصرية.

لا شيء يولد من فراغ، والثورات لا تهبط على مجتمعاتها من كواكب مجهولة..أنجزت وأخفقت، انتصرت وانتكست، وتركت إرثاً هو ملك لكل المصريين والعرب لا لتيار سياسي واحد.

لسنوات طويلة بعد رحيل «جمال عبد الناصر» بدا أكثر الأسئلة جوهرية: ما الذي تبقى من «يوليو/تموز»؟

تعددت الإجابات بحكم الزاوية التي تنظر منها، وتنوعت باختلاف الظروف والحقب السياسية، لكنه لم يكن بوسع أحد أن ينكر الأثر الهائل الذي خلفته.

رغم أي أخطاء جوهرية ارتكبتها «يوليو/تموز» فإنها ألهمت ثقافة وفناً ووعياً جديداً بقيم العصر الاجتماعية والتحررية، لا مثيل له في التاريخ الحديث كله.

أفضل تعريف للناصرية أنها «المشروع الوطني المتجدد» على ما قال ذات يوم الأستاذ «محمد حسنين هيكل».

وفق هذا التعريف فإن أي تقدم للمستقبل يستدعي أن تكون هناك رؤية واضحة للتاريخ الوطني تحترم تضحياته ولا تخفي ثغراته، تبني على ما تقدم وتجتهد في الاستجابة لتحديات زمنها.

وهذا زمن «يناير/كانون الثاني».. بقدر احترامك للأحلام التي حلقت فيها والتضحيات التي بذلت في ميادينها فأنت تحترم تاريخك الوطني كله..قيمة «يونيو/حزيران» في التاريخ أنها تصحيح لما اختل واستعادة لما اختطف.

ليس من حق أحد أن يتحدث عن «يونيو/حزيران» كنقيض ل«يناير/كانون الثاني» إلا أن يكون مدلساً، فلم يكن يجرؤ أحد أن يتحدث بهذه اللغة في فورة الغضب الكبرى على اختطاف الثورة.

قوة «يناير/كانون الثاني» في الأحلام التي أطلقتها والتغييرات التي أحدثتها في الشخصية المصرية التي لم يعد ممكناً أن تتقبل العودة إلى الماضي.

للأحلام قوة النفاذ إلى المستقبل..تلك حكمة التاريخ على ضفاف النيل.