&السيد يسين

تحدثنا في مقالنا الماضي «خريطة معرفية لمشكلات الهوية» عن التعريف الأساسي للهوية، وعن أنماطها المتعددة، وميزنا بين ثلاثة أنماط أساسية هي الهوية الفردية والهوية الاجتماعية والهوية الإنسانية.

والواقع أنه يمكن القول إن العرض الذي قدمناه لموضوع الهوية يعبر عن الوضع التقليدي لمشكلة الهوية، والذي ساد حقباً طويلة من الزمن، غير أن مجيء عصر العولمة بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والثقافية مثل نقطة انقطاع تاريخية في موضوع الهوية لأن مشكلاتها في عصر العولمة تختلف كثيراً عن مشكلاتها في العصور السابقة.

وإذا كنا اعتمدنا في عرض الوضع التقليدي لمشكلات الهوية على كتاب «بيكو باريك» وعنوانه «سياسة جديدة للهوية المبادئ الأساسية لعالم يتسم بالاعتماد المتبادل»، فإننا سنعتمد على عرض مشكلات الهوية في عصر العولمة على أهم مرجع على الإطلاق صدر للكشف عن القوانين الأساسية لمجتمع المعلومات العالمي، وهذا المرجع الفريد ألفه أستاذ علم الاجتماع الأميركي (من أصل إسباني)، وهو «مانويل كاستلز». وكتابه عنوانه «عصر المعلومات»، وهو يتكون من ثلاثة أجزاء هي المجتمع الشبكي، وقوة الهوية، ونهاية الألفية.

ويجمع العلماء الاجتماعيون في العالم على أن كتاب «كاستلز» يمثل ثورة فكرية حقيقية في دراسة العالم الافتراضي الذي نشأ نتيجة ثورة الاتصالات الكبرى وفي قلبها البث التليفزيوني الفضائي واختراع شبكة الإنترنت. لدرجة أن أطلق على «كاستلز» أنه «كارل ماركس» القرن الحادي والعشرين، لأنه إذا كان «ماركس» هو الذي اكتشف في كتابه الشهير «رأس المال» القوانين الأساسية للرأسمالية وفي مقدمتها نظريته عن «فائض القيمة» فإن «كاستلز» بنظريته عن «المجتمع الشبكي» يقدم تفسيراً إبداعياً لأبرز ظواهر العالم الافتراضي. ولذلك نحتاج إلى أن نقف وقفة طويلة نسبياً مع نظرية «كاستلز» التي ستسمح لنا بفهم المجتمع العالمي الراهن. ولعل السؤال الذي ينبغي طرحه الآن، ما هي الأطروحة الأساسية التي يقدمها «كاستلز»؟

تتمثل هذه الأطروحة في أن شكلاً جديداً من أشكال الرأسمالية قد بزغ، وذلك في نهاية القرن العشرين، وهي رأسمالية كونية في طبيعتها، مصممة على تحقيق أهدافها، وأكثر مرونة من الأشكال الرأسمالية السابقة.

وهذه الرأسمالية تواجهها على مستوى العالم قوى تتحداها، تتمثل في تشكيلة واسعة من الحركات الاجتماعية تدافع عن الخصوصيات الثقافية، وقدرة البشر على التحكم في مصيرهم، وفي البيئة التي يعيشون فيها. وهذا التوتر هو الذي يصنع الديناميكية الرئيسية لعصر المعلومات.

ويلخص «كاستلز» هذا التوتر في عبارة جامعة حيث يقرر «أن مجتمعاتنا أصبحت بشكل متزايد تتبلور حول الصراع الثنائي القطبية بين الشبكة والذات ‏The Net and the self».

ويقصد «كاستلز» بالشبكة ‏Net التشكيلات التنظيمية الجديدة التي قامت على أساس الاستخدام الواسع المدى للميديا الاتصالية المتشابكة ونماذج التشبيك Network، والتي تميز أكثر القطاعات الاقتصادية المتقدمة. وينطبق ذلك على الشركات الكبرى المتنافسة تنافساً شديداً، وكذلك بالنسبة للمجتمعات المحلية والحركات الاجتماعية.

ومن ناحية أخرى فالذات ‏Self ترمز إلى الأنشطة التي يحاول فيها الناس تأكيد هوياتهم في ظل ظروف تتسم بالتغيرات البنائية وعدم الاستقرار التي ترافق تنظيم الأنشطة الرئيسية الاجتماعية والاقتصادية، وتصوغها في شكل شبكات ديناميكية.

وبزغت تشكيلات اجتماعية جديدة تدور حول الهويات الأولية ‏Primary identities، والتي قد يكون تركيزها على الجنس أو الدين أو السلالة أو القومية، وهذه الهويات ينظر إليها عادة وكأنها –بيولوجياً أو اجتماعياً- غير قابلة للتغير، وذلك في مواجهة التغيرات السريعة التي يمكن أن تلحق بالآفاق الاجتماعية.

ويمكن القول إنه في سياق التفاعل بين «الشبكة والذات» فإن ظروف الحياة الإنسانية والخبرة العملية يعاد صياغتها بشكل عميق، وذلك على مستوى العالم.

وإذا تساءلنا عن الافتراضات النظرية التي بنى عليها «كاستلز» تحليلاته العميقة لقلنا إنه يقف وراء فرضه الرئيسي عن الصراع بين الشبكة والذات افتراضان أساسيان:

الافتراض الأول ويشير إلى نشوء «الشبكة»، ويقرر أن سببه هو التفاعل الجدلي بين العلاقات الاجتماعية والتجديد التكنولوجي، أو بحسب تعبيرات «كاستلز» بين أنماط الإنتاج وأنماط التنمية.

أما الافتراض الثاني فيشير إلى أهمية «الذات»، ويعني بذلك أن الطريقة التي تعرف بها الجماعات هوياتها هي التي تحدد شكل مؤسسات المجتمع. وبعبارة «كاستلز» كل عملية لبناء هوية متميزة تؤدي إلى ناتج مختلف في البناء الاجتماعي. على سبيل المثال عملية بناء هوية دينية متشددة ومنغلقة لابد أن تؤدي إلى أنساق اجتماعية مرتبطة بها. أما الافتراض الثاني، والذي يركز على دور الهوية في التنمية الاجتماعية فيذهب إلى أن عملية بناء الهويات المتمايزة هي التي تشكل المجتمع.