خيرالله خيرالله

بعد مئة عام على سايكس ـ بيكو، نجد العالم العربي غارقاً في بحر التطرّف. انّ بروز كلّ هذه العناصر المرتبطة بالعنف والتخلف هو، في جانب منه، نتيجة مباشرة للاستراتيجية التي وضعها البيت الابيض. كذلك، انّ اختفاء الاصوات التي تتمتع بنوع من العقلانية، عائد الى تلك الاستراتيجية.

باختصار، ان الاستمرار في سياسة منحازة لا ترى سوى بعين واحدة، تقوم على التقارب مع ايران، جعل الرئيس باراك اوباما يتكفل بالقضاء كل العناصر المعتدلة، اكانت شيعية او سنّية، في الساحة السياسية الشرق اوسطية.

في الخطاب الذي القاه في القاهرة في بداية عهده في العام 2009، سعى الرئيس الاميركي المنتخب حديثا الى اعادة تحديد للعلاقات بين الولايات المتحدة والمسلمين. ادّعى في ملاحظات له تلت خطابه انّ «اساس المشكلة، في ما يتعلّق بهذا الوضع، مرتبط بان الولايات المتحدة وبلدان الشرق الاوسط غير قادرة على التواصل بشكل فعّال».

بعد سبع سنوات على الخطاب، يبدو المستفيد الوحيد من هذه الخلاصة النظام الديكتاتوري المستبد الذي اقامه آيات الله في طهران. كان هؤلاء موضع تركيز في استراتيجية قائمة على الايمان القوي للرئيس بنفسه وبقدرته على التعاطي مع الآخرين وفتح حوار معهم.

ولكن من اجل ان تتقدّم هذه الاستراتيجية وان تثبت انّها الخط الوحيد الصحيح، كان لا بدّ من تجاهل السنّة والشيعة الذين يعارضون ايران، وحتّى التعرض لهم.

في مطلع هذه السنة، زار برلماني لبناني من الخط الوسطي واشنطن. ابلغه اكثر من مسؤول اميركي انّه في حين يواجه حلفاء اميركا في المنطقة مشاكل مع «ذوي اللحى القصيرة»، اي مع «حزب الله» وايران، فانّ المشكلة بالنسبة الى الولايات المتحدة، في عهد اوباما، تعود الى «ذوي اللحى الطويلة»، اي «داعش». طُلب من النائب اللبناني التكيّف مع هذه الحقيقة الجديدة المتمثّلة في ان السياسة الأميركية باتت تقوم على التعاطي مع ايران والابتعاد عن السنّة.

باعتماده هذا التغيير الاستراتيجي، تحوّل الرئيس الاميركي الى اشبه بمن يحمل فزاعة، هي رجل من قشّ، ويسعى في الوقت ذاته الى افتعال ازمة مزيّفة لا اكثر.

عندما ينظر باراك اوباما الى الشرق الاوسط، فهو يريد ان يقول لنا ان لدى الولايات المتحدة خيارا في غاية البساطة. هذا الخيار هو بين الاسلام الشيعي الممثّل بايران و«حزب الله» من جهة والاسلام السنّي من جهة اخرى. استنادا الى جدلية اوباما، وحدهم السذّج والاغبياء يرون المشهد على نحو مختلف: ان النظام الايراني، بالنسبة اليه، افضل بشكل واضح من «داعش» و«القاعدة» وما يتفرّع عنهما. في الواقع، انّه يلعب اللعبة القديمة المعروفة في المنطقة. تلك اللعبة التي مارسها الديكتاتوريون العلمانيون، ظاهرا، الذين ندد بهم في خطاب القاهرة. هؤلاء بقوا في السلطة سنوات طويلة وحفظوا الامن رافعين فزاعة التطرف الديني كبديل وحيد من استبدادهم.

&

عمليا، استأصل اوباما الوسطية السياسية. فرض الصمت على الشرق الاوسط. ليس مطلوبا من جمهوره سماع صوت الاكثرية الشيعية التي ترفض التطرف الاسلامي اوهذا العدد الكبير من الايرانيين المعارضين للنظام. بالنسبة اليه لا وجود للاعبين معترف بهم سوى آيات الله وامتدادهم المسمّى «حزب الله». ليست «الحركة الخضراء»، وهي الثورة الشعبية في ايران في العام 2009، سوى ذكرى مزعجة. كذلك، ان السنّة في الخليج هم بالنسبة اليه «داعش». لا مجال للتمييز بين هذا التظيم الارهابي والمملكة العربية السعودية مثلاً!

هناك بديل شيعي معتدل لآيات الله و«حزب الله» في ايران ولبنان. في العراق، هناك ايضا رفض للهيمنة الايرانية. اكثر من ذلك، ان الحكام في الخليج، بما في ذلك السعودية، يشكلون حاجزا في وجه «داعش» وفي وجه قوى التخلف داخل مجتمعاتهم. كان الاعتراف بذلك بمثابة نهاية للازمة المزيفة التي اختلقها اوباما. يفرض الاعتراف بذلك سبب في غاية البساطة يتمثّل في انّ «حزب الله» والنظام القائم في ايران ليسا تلك القوة التي تريد الخير للمنطقة او انّهما اكثر اعتدالا من السعودية ودولة الامارات على سبيل المثال.

لم يكن تورط اوباما في استراتجيته الايرانية مجرّد مناورة تستهدف اقناع العالم بفوائد التقارب مع طهران. كان لمتابعة السعي الى صفقة مع ايران تأثيره على كلّ عنصر في السياسة الشرق اوسطية لاوباما وادارته. ضحّى الرئيس الاميركي بكلّ الاولويات الاقليمية الاخرى لتهدئة ايران واسترضائها والتصالح معها.

في الواقع، اندفع الديبلوماسيون الاميركيون منذ اليوم الاوّل لعهد اوباما نحو التفاوض مع ايران. ففي شهادة له في العام 2010 امام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، اعترف وليم بيرنز مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية بان المفاوضات مع ايران بدأت باكرا. اشار الى «انّ الرئيس اوباما باشر قبل سنتين قريبا في بذل جهد لا سابق له من اجل التعاطي مع ايران». انّه جهد لا سابق له بالفعل، نظرا الى انّه لم يسبق لرئيس اميركي ان قدّم كلّ هذه التضحيات من اجل استرضاء دولة عدوة.

جاء التحدي الاول لسياسة ادارة اوباما في مطلع الولاية الاولى. كان ذلك مع «الحركة الخضراء» التي كانت تعبيرا عن احتجاج الشعب الايراني على تزوير الانتخابات التي اعادت محمود احمدي نجاد الى موقع الرئاسة. اوقفت الادارة كلّ الدعم الذي كات تقدّمه عبر وزارة الخارجية للصحافة الحرّة وذوي التوجه الليبيرالي في ايران. فسّر سكوت كاربنتر الموظف في وزارة الخارجية الأميركية ذلك بقوله: «هناك وجهة نظر في الدوائر العليا لادارة اوباما تقول ان برنامج دعم الديموقراطية في ايران مجرّد ورقة يمكن المقايضة بها مع النظام الايراني».

بعد عام، تخلّت ادارة اوباما عن العراق لايران. ضحت بكل ما تحقق من مكاسب في العراق بفضل «الصحوات»، التي كان وراءها الجنرال بتريوس، والدماء التي بذلت والاموال التي صرفت. رضخت ادارة اوباما للخيار الايراني القاضي بالاتيان بنوري المالكي رئيسا للوزراء مجدّدا، علما ان لائحة اياد علاوي حصلت على عدد اكبر من المقاعد من تلك التي حصلت عليها لائحة المالكي. قضت حكومة المالكي على كل امل في العراق وقمعت السنّة وهيأت الظروف المواتية لظهور «داعش» كقوة في العراق وما يتجاوز العراق.

ما حصل في سورية بعد ذلك، كان اكثر فظاعة. رفض اوباما اي استخدام للقوّة مع النظام السوري في حين تحرّك ضد معمّر القذافي. تساهل مع النظام السوري على الرغم من قتله الآلف من ابناء شعبه وتشريده الملايين.

في مقال كتبه جيف غولدبرغ في العام 2012 لـ «بلومبرغ» ورد انّ لا شيء يعزل ايران واداتها «حزب الله» اكثر من ازاحة النظام السوري واحلال آخر مكانه منبثقا عن الاكثرية السنّية. لكن رهان اوباما كان على التعاطي مع ايران، بدل عزلها. رفض اي مواجهة مع مصالحها في سورية.

&

الآن وقد وقّع الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني، فانّ نجاحه بات رهينة اهواء آيات الله ونزواتهم. اكثر من ذلك، كشف الرئيس الاميركي في غير مناسبة نيته الرضوخ لمطالب آيات الله مهما بلغ الثمن، وذلك من اجل الحصول على التنفيذ الكلّي للاتفاق وتأكيد ان سياسة التعاطي مع ايران كانت سياسة ناجحة. انّه مستعد حتّى لفتح النظام المصرفي الاميركي امام ايران، وهو ما كشفه مقال صدر حديثا في «وول ستريت جورنال» تحت عنوان «دولرة آيات الله».

جاء اوباما الى البيت الابيض وهو يبشّر بالقيم ذات الطابع التغييري التي يخلقها الحوار والتعاطي مع الآخر، خصوصا مع ايران. بعد سبع سنوات في السلطة، قدّم هذا النوع من التعاطي بطريقة فظّة على كل ما عداه. وقّع اتفاقا في شأن الملف النووي مع ايران، لكن صلب الاتفاق يبقى موضع تساؤل، في افضل الاحوال، خصوصا انه يضع آيات الله في المسيطر على الامور. صارت مسؤولية اظهار حسن النيّة تقع على الولايات المتحدة التي عليها البدء باكرا في تخفيف العقوبات على ايران التي لا يترتب عليها، في المقابل، الامتناع عن خرق القانون الدولي.

بات اي انتقاد، مهما كان ناعما، يصدر عن واشنطن يجلب تهديدات ايرانية بالتخلي عن الاتفاق بكامله. في الجانب الآخر من المعادلة الحسابية، وضعت اميركا جانبا كلّ قوى الاعتدال او الغتها. يتّمت «الحركة الخضراء» في ايران واصبح العراق ساحة يسرح فيها ويمرح «فيلق القدس». اما سورية فقد دمّرت وتركت المعارضة المعتدلة تحت رحمة ضربات ايران و«حزب الله» وروسيا. في المقابل، برز«داعش» كقوة اقليمية ووجها للتطرّف السنّي.

هناك حرب مذهبية في المنطقة تخلت فيها الولايات المتّحدة عن حلفائها التقليديين الذين حلّت لعناتها عليهم. ردّ هؤلاء بمزيد من الشكوك في دوافع السياسة الأميركية. كلّ ما في الامر انّ الهاجس الاميركي المتمثل بالحوار مع ايران والتعاطي معها، جعل الاخيرة تمتلك مزيدا من النفوذ والقوّة وادى الى مزيد من التطرّف الذي يذهب ضحيته المعتدلون ومجموعة الاقلّيات في الشرق الاوسط.