&صالح القلاب&

ربما أكبر خطأ ارتكبه راشد الغنوشي طيلة حياته السياسية المديدة فِعلاً، التي بدأت في بدايات ستينات القرن الماضي وبقيت متواصلة حتى الآن، هو الالتحاق بتنظيم الإخوان المسلمين الذي بدأ في حقيقة الأمر مصريًا وبقي مصريًا منذ تأسيسه في عام 1928، والواضح أنه سينتهي مصريًا، وذلك أولاً لأنه بعد تحولات ما سُمي الربيع العربي قد وصل إلى الحكم ثم انتهى حكمه بالسرعة التي وصل إليه فيها، وثانيًا لأن حركة التاريخ في القرن الحادي والعشرين (الألفية الثالثة) قد تجاوزت كل أحزاب وتشكيلات وتنظيمات القرن الماضي ومن بينها، بالإضافة إلى هذه «الجماعة»، حزب البعث وحركة القوميين العرب والحزب الشيوعي الذي كان حزب الاتحاد السوفياتي والحزب الأقوى في دولٍ أوروبية رئيسية مثل فرنسا وإيطاليا.

حتى البدايات المبكرة من تسعينات القرن الماضي لم يكن لراشد الغنوشي أي علاقات تنظيمية بالإخوان المسلمين، وذلك مع أنه بعد تجارب متعددة، كلها كانت خارج وطنه تونس، قد وصل إلى قناعة، بناءً على نصيحة الفيلسوف الجزائري المبدع مالك بن نبي، بأنه لا نجاح لأي تنظيم سياسي في دول المغرب العربي ما لم يحمل اسمًا إسلاميًا، وما لم تكُنْ هويته ومنطلقاته إسلامية، ولذلك فإنه كان قد بدأ في هذا المجال باسم «الاتجاه الإسلامي» ثم ما لبث بعد خروجه من السجن، بعد الانقلاب الذي نفذه زين العابدين بن علي في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1987 على «المجاهد الأكبر» الحبيب بورقيبة، إلى تغيير هذا الاسم واختيار اسم «حركة النهضة الإسلامية»، التي أصبحت الآن «حزب النهضة الإسلامية» بعدما أنهت علاقاتها بالجماعة الإخوانية وتحولت إلى حزب وطني تونسي تخلى نهائيًا عن واجب «الدعوة» الذي كان يلتزم به في الفترة السابقة الطويلة.

وهنا، فإنه تجب الإشارة إلى أن مجلة «المجلة»، التي تصدر في لندن والتي كانت، منذ بدايات ثمانينات القرن الماضي وحتى بدايات تسعيناته، سيدة المجلات العربية وطليعتها بلا أي منازع، هي أول من عرَّفت قراءها ومتابعيها براشد الغنوشي، حيث كانت قد أجرت معه عددًا من اللقاءات في منزله في منطقة بن عروس، شارع قناة السويس، بعد خروجه من السجن مباشرة نشرتها في سلسلة حلقات متتالية أثارت ضجة كبيرة، وكانت بداية التعريف بهذه الحركة الصاعدة وبمؤسسها الذي كان قد حُكم عليه بالإعدام في زمن الحبيب بورقيبة، والذي مع الوقت تحول إلى قائد سياسي معروف ليس في تونس وحدها وإنما أيضًا في المنطقة العربية كلها وفي العالم بأسره.

في تلك الحلقات، التي كادت تصادرها المخابرات التونسية قبل أن يجري تفريغها على الورق وإعدادها للطباعة، تطرّق راشد الغنوشي إلى بداياته عندما كان لا يزال طالبًا صغيرًا في مدرسة في إحدى قرى الجنوب التونسي «المقطوعة» النائية.. لقد قال إنه عرف تونس وعرف الوضع وعرف الرئيس جمال عبد الناصر وأُعجب به من خلال إذاعة «صوت العرب»، التي كانت هي الإذاعة الوحيدة التي تُسمع في قريته هذه وفي المناطق التونسية الجنوبية كلها، والتي لولاها لما أصبحت مسيرته السياسية هي هذه المسيرة الطويلة المتقلبة.

عندما أكمل دراسته الثانوية اختار الغنوشي مصر «معشوقته»، التي تعرف عليها وعلى عبد الناصر وعلى الوحدة العربية من خلال «صوت العرب»، لإكمال تحصيله الجامعي، فذهب إلى القاهرة «تسللاً»، لكن صَدْمته كانت كبيرة عندما ووجِهَ بـ«البيروقراطية» المصرية، وبعدما يئس من الالتحاق بأي من الجامعات المصرية كاد يذهب إلى ألبانيا للالتحاق بإحدى جامعاتها، لو لم ينصحه أحد الأصدقاء بالذهاب إلى دمشق، حيث وصل حزب البعث إلى الحكم في الثامن من مارس (آذار) 1963، وتم فتح أبواب الجامعات السورية للطلبة العرب بهدف استقطابهم إلى هذا الحزب الذي كان يسعى للوصول إلى الحكم في معظم الدول العربية.

هناك في دمشق لم ينضم راشد الغنوشي إلى حزب البعث، الذي لم يكن معجبًا به، بل بحكم «ناصريته» المبكرة اختار حزب الاتحاد الاشتراكي بقيادة جمال الأتاسي، حيث أصبح مسؤولاً لفرعه في دمشق.. لكنه بعد هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967 دفعه الإحباط الشديد إلى ترك سوريا والذهاب إلى أوروبا قاصدًا ألمانيا ليدرس «الفلسفة» في إحدى جامعاتها ثم وبعدما أن تعذر عليه ذلك، عاش فترة ضياع ذاق خلالها الأمرين قبل أن ينتقل إلى الجزائر حيث التقى فيلسوفها الكبير المبدع مالك بن نبي، ومنها إلى تونس حيث تعرف على الشيخ عبد الفتاح مورو في جامع الزيتونة، فكانت فكرة إنشاء «الاتجاه الإسلامي» الذي تحول إلى «حركة النهضة الإسلامية» التي أصبحت لاحقًا فرعًا من فروع «الإخوان المسلمين».

وهكذا فإن هذا الناصري والاشتراكي، الذي لم يبدأ «إسلامويًا» ولا «إخوانيًا» والذي اضطر تحت ضغط الظروف إلى إلحاق تنظيمه «حركة النهضة» بـ«الإخوان المسلمين»، قد وجد نفسه على مفترق الطرق مع الجماعة الإخوانية، بعد تجربة أعوام ما بعد بدايات «الربيع العربي» وكانت النتيجة أن بادر إلى توجيه رسالة إلى المؤتمر الذي عقده التنظيم العالمي لهذه «الجماعة»، قبل بضعة أيام في إسطنبول قال فيها إن «الفراق بيننا وبينكم قد اقترب.. وأنا بالفم الملآن أعلن لكم أن طريقكم خاطئ، وأنه جلب الويلات على كل المنطقة.. لقد صورتم لنا أن مصر ستنهار، وأنكم ستستعيدون الحكم خلال أسابيع وأشهر، ولكن للأسف قد أثبتم أنكم قليلو الحيلة، وتحالفتم مع منظمات إرهابية تدمر أوطانكم، ماذا بقي لكم في حال دمار وطنكم. يجب ألّا تكون الكراسي هي الهدف فالوطن أهم».

وهكذا فقد حسم الغنوشي هذا الأمر في المؤتمر العاشر لهذه الحركة التي تحولت إلى حزب سياسي تخلى عن «الدعوة» وتمسك بالسياسة وقطع كل علاقة له بـ«الإخوان المسلمين»، وحقيقة أن هذه الخطوة التاريخية قد وجهت ضربة قاصمة لهذه «الجماعة» التي غدت تلفظ أنفاسها الأخيرة، كما أنها أسفرت، كما يقال، عن خلافات داخلية في حزب النهضة نفسه غير معروف كيف ستكون نتائجها إذا لم يتم تطويقها بسرعة وإنهاؤها بالاتفاق على حلول «تساومية».

ويبقى أنه لا بد من الإشارة إلى أن هناك من يعتقد أن هذا الرجل الذي بدأ ناصريًا وقوميًا ثم تحول إلى اشتراكي ثم أصبح إسلامويًا ثم إخوانيًا قد قام بهذه الخطوة من قبيل المناورة استعدادًا للانتخابات المحلية والانتخابات الرئاسية المقبلة التي يتطلب خوض غمار معركتها التلاؤم مع توجهات الرأي العام التونسي، الذي تغلب عليه «الليبرالية» الاجتماعية التي رسخها الحبيب بورقيبة، خلال سنوات حكمه الطويلة، والذي يرفض رفضًا قاطعًا منطلقات الإخوان المسلمين وممارساتهم السياسية، لكن الواضح أن هذا الاعتقاد هو مجرد اعتقاد افتراضي غير مؤكد، وأن الغنوشي سينجح في عودته إلى تونسيته التي يصفها البعض بأنها تشبه «عودة الابن الضال»!

&

&

&