&محمد علي المحمود

يُعاني العقل العربي - الذي يبدو عقلا جماهيريا غوغائيا في صورته الأعم/الأشمل - من فوضى عارمة، لا تخلط الحاضر بالماضي فحسب، وإنما – أيضا - تخلط الحاضر والماضي بالأوهام والمتخيلات الغرائبية التي تستفزها الرغبات البدائية والأحلام الطفولية الساذجة، التي تكشف عن (عقل!) لم يبلغ سن الرشد بعد؛ ويبدو أنه لن يبلغه في المستقبل القريب. بل يبدو أن هذا العقل الغوغائي الفوضوي لا يستفيد حتى من تجاربه في الواقع المتعين، تلك التجارب الفاشلة التي تنقله من كارثة إلى كارثة، ومن مصيبة إلى مصيبة؛ فيُصِرُّ – مُستكبرا بجهله – على ارتكاب الحماقات تلو الحماقات، فلا هو يتعلم الدروس؛ كما تتعلمها حتى أدنى الكائنات!.

ابتداء، نحن أبناء الإسلام، نرتبط بيقينياّته القطعية التي وردت في النصوص المُؤسِّسة، ونؤمن بها؛ من حيث كونها عقائد إيمانية لا ينعقد صحيح الإيمان إلا بها. ولكننا – في الوقت نفسه – نعرف بالعقل (النص الفطري) أن الزمني متغير، وأن تلك اليقينيات المرتبطة بالزمني مشروطة بالتأويل المتغير بتغير الشروط الموضوعية التي كانت تحكم لحظة التأسيس.

مثلا، نؤمن بالجهاد الذي ورد في النصوص المقدسة قطعا، نؤمن بالجهاد الروحي الذي يتضمن مواجهة أهواء النفس، كما نؤمن بالجهاد المسلح الذي يتضمن مواجهة المعتدين الظالمين. لكن، ليس بغوغائية وعبثية حمقاء تنزع النصوص من سياقاتها؛ فتلغي أصدق دلالاتها، وتعكس – بضدية - مقاصدها؛ لتكون وسيلة النفع/ وسيلة الخير – بعد هذه العبثية – وسيلة للشر، بل وتتطور لتصبح بوابة لدمار الإنسان والأوطان.

الجهاد في القديم كان هو الآلية التي يحشد بها القادةُ الجيوشَ لمواجهة الأعداء/ المعتدين. قديما، وفي الإمبراطوريات الراسخة، كانت الجيوش النظامية تقوم بهذه المهمة على أكمل وجه؛ حتى وإن استلزم الأمر الاستعانة - في بعض الأحيان – ببعض عناصر من متطوعي الداخل أو من حلفاء الخارج، سواء أولئك الذين يلتحقون بالجيش النظامي صراحة، وذلك بالدخول في وَحدات الجيش، أو الذين يلتحقون به ضمنا، وذلك عبر الالتزام بالأوامر في خطوطها العريضة، ولو بالالتزام العام بالأهداف المحددة للحرب.

بالنسبة للإسلام إبان فترته الأولى التي شهدت تَنزّل النص المؤسس، لم يكن ثمة جيش نظامي للدولة الناشئة، لا لأن المسلمين لم يعرفوا الجيوش النظامية، وإنما لأن البيئة العربية الفقيرة جدا؛ بشريا وماديا، لم تكن تسمح بمثل هذه الرفاهية القتالية. لم يكن من الممكن الاستغناء عن آلاف الأيدي العاملة في هذه البيئة الصحراوية الشحيحة، وتفريغها لمهمة قتالية خاصة في جيش محترف.

ولهذا، كان المواطنون هم الجيش الممكن، هم الجيش الممكن الذي يتحول جيشا حقيقيا بمجرد الدعوة إلى الجهاد؛ حيث – بمقتضى منطق الضرورة القصوى – يَترك كل إنسان واجبه المدني المرتبط بمعيشته جانبا، ويلتحق بالفِرَق القتالية. في مثل هذه الحال، يتخلى المزارع عن مزرعته، والنجّار عن نِجارته، والحداد عن حدادته، والراعي عن ماشيته، والتاجر عن تجارته، ويقدّم كلٌّ نفسَه – مُتطوّعا – في صفوف الجيش، الجيش اللاّنظامي، الذي يتكوّن وينحل بين فترة وأخرى؛ وفق ظروف الحاجة الآنية التي تحكمها الأخطار المحدقة بالدولة - حقيقة أو توقعا -؛ كما يُقدّرها القائد العام.

إن هذا المقاتل المتطوع: هذا المزارع، هذا الراعي، هذا الحدّاد، هذا النجار، هذا التاجر..إلخ، يقاتل بلا مقابل، بل بخسارة أيام الغياب التي قد تتحول إلى كارثة تطاله في مصدر رزقه. ولك أن تتخيل مَزارعَ الفلاحين وما سيلحق بها من بوَار؛ عندما يهجرونها في أوقات زراعية حاسمة؛ من أجل تأدية واجب الجهاد. لهذا، كان من الضروري الترغيب في الجهاد بهذا المسمى، أي بذل غاية الجهد، ثم بما رتّب عليه الإسلام من الأجر؛ لأن القيام به لا يعني تعريض النفس للموت فحسب، وإنما – أيضا - تعريض المستقبل المعيشي للذرية المسؤول عنها هذا (المدني المقاتل) لمخاطر قد تقف بذريته على شفير الهلاك في مصدر رزقهم الأساس.

ومع هذا الطابع التطوعي للقتال الجهادي في سياق تَنزّل النصوص المقدسة؛ فلم يكن الأمر فوضى كما يتصور كثيرون. أي لم يكن المُتطوّع هو الذي يقرر متى يتطوع، ولا في أي مكان يتطوع، ولا ضمن أي فصيل قتالي يتطوع. كان القتال/ الجهاد من حيث هو ممارسة قتالية مشروط بالقرار العام لقائد الدولة، ولا يجوز التطوع - ولو بالحدود الدنيا – خارج نطاق الأوامر القيادية؛ حتى في أشرس حالات العدوان التي يقوم بها الأعداء.

وما واقعة الحديبية التي انتهت بالصلح، الصلح الذي ضاق به عموم الجيش الإسلامي، إلا أوضح دليل على أن رفع السلاح لغاية الجهاد محكوم بإرادة عامة تصدر عن صاحب الصلاحيات في هذا المجال.

لم يستمر هذا الأسلوب في التطوع القتالي، أي غياب الجيش النظامي، ذلك الغياب الذي ارتبط بظروف الواقعة الاجتماعية/ الاقتصادية في لحظة التأسيس، بل بمجرد أن تحقق للدولة الإسلامية مستوى من الرفاهية التي تمكنها من تكوين جيش نظامي مشابه للجيوش الإمبراطورية، قامت بذلك، وتدرّج الأمر؛ حتى أصبح للجيش استقلاليته الاجتماعية والاقتصادية، وحتى أصبحت قضية (رواتب الجنود) في الدولة العباسية من أهم القضايا التي تحكم مصير الخليفة. وإذا كان التطوع العسكري/ الجهاد لم ينتهِ، بل استمر مع وجود هذه الجيوش النظامية، فإنه كان يتبع الجيوش النظامية تبعية تامة، بل وينخرط فيها، حيث يرتبط المتطوع بالأوامر العسكرية النظامية ابتداء بأمر قبول تطوعه، وانتهاء بتوقيت القفول.

هكذا يتضح أنه لم يكن ثمة (تطوع جهادي) مشروع يقع خارج النظام العسكري العام للدولة الإسلامية في تاريخ الإسلام. حتى مصطلح: (الجهاد) لم يكن حكرا على المتطوعين، بل كان الجيش النظامي - بمقاتليه الأساسيين وبمتطوعيه - يُنظر إليه ككل؛ على أنه يقوم بمهمة جهادية.

والخارجون (الفصائليون) على هذا الإطار التنظيمي الشرعي لم يعرفوا – مهما كانت شعاراتهم الجهادية - إلا بمُسَمّى: (الخوارج) الذين هم الاستثناء، الاستثناء الذي يؤكد نظامية الجهاد.

اليوم، انتقلت (مُهمّة الجهاد) إلى الجيوش النظامية، وتطور الجهاد نفسه بتطور هذه الجيوش شكلا ومضمونا. لا جهاد شرعيا يقع خارج هذه الجيوش. هذه من بدهيات العقل والشرع.

واليوم، مَن أراد (التطوع)؛ فمن خلال هذه الجيوش النظامية المرتبطة بقيادات وقوانين سياسية، لا يجوز للمتطوع أن يخترقها. والمعنى، أنه لا يكفي للمتطوع أن يلتحق بجيش نظامي حتى يكون جهاده صحيحا، بل لا بد أن يلتحق بجيش بلده الذي ينتمي إليه سياسيا.

قرار الجهاد، الذي هو قرار حرب، لم يكن في يوم من الأيام قرار أفراد، أو فصائل، أو ميليشيات، بل هو قرار جيوش نظامية تابعة للدول ذات الشرعية السياسية. قرار الحرب لا يخضع للنزوات الفردية؛ مهما كانت الغايات نبيلة، بل هو قرار مشروط بالسياسات الأعم والأشمل، التي لن يكون قرار الحرب إلا جزءا منها، وبالتالي، محكوما بكلياتها العامة.

ومع أن هذه حقيقة واضحة على امتداد التاريخ الإسلامي، ومع أنها تزداد وضوحا ورسوخا مع كل تقدم تنظيمي يطرأ على حياة البشر في العصر الحديث؛ إلا أن بعض (الوُعّاظ) يجهل أو يتجاهل هذه الحقيقة الواضحة، ويريد أن يكون أخطر قرار: (قرار الحرب) بيد كل مُتحمّس جاهل أرعن. بل وحتى (المتحمس العالِم الناصح العاقل) لا يملك بعضَ هذا الحق العام الذي يدخل في نطاق القرار السلطوي المؤسساتي؛ لأنه – في الأصل - قرار دول، لا قرار أفراد.

لا يخفى أن الوُعّاظ كانوا في مقدمة المحرضين على الجهاد في الظروف الصعبة التي مرت على المسلمين في تاريخهم الطويل. لكن، لا يجوز تجاهل حقيقة أنه تحريض منضبط برؤية ونظام؛ من حيث هو مقتصر على التحريض على الالتحاق بالجيوش النظامية التي تمر بحالة طوارئ تتطلب الاستعانة بالمتطوعين. وتبقى المشكلة أن بعض الوعاظ أخذ هذا التحريض التاريخي منزوعا من كل سياقاته (أي بوصفه حالة دعوية مشروطة بالشرط الديني الخالص)، وأراد تطبيقه بنفسه كفرد أو كجماعية أو كتيار، في سياق مغاير تماما.

لا يتجاهل (الواعظ المحرض على الجهاد) المتغيرات الجوهرية التي طرأت على طبيعة العلاقة بين المجتمعات والدول فحسب، وإنما يتجاهل – أيضا - الشروط التقليدية التي تُسيّجُ نظام العلاقات المنصوص عليها – أي الشروط - في التراث التقليدي الذي ينتمي إليه. وللأسف، لا يهم هذا الواعظ عندما يبحث في (حالة جهادية) متعينة، إلا طبيعة الانتماء العقائدي للجماعة التي ترفع راية الجهاد، فإن توافقت مع تفاصيل خياراته العقائدية؛ أجلب بخيله ورجله مُحرّضا الشباب على الالتحاق بصفوفها، وإلا فلا.

ليس بالضرورة أن يحرض الواعظ تحريضا مباشرا صريحا، هو سيفعل ذلك إن أمكنه، وإن لم يمكنه ذلك؛ مارس الأسلوب اللاّمباشر، الأسلوب الذي يتعمّد ذكر مآسي المسلمين في مواطن الصراع على نحو مبالغ فيه جدا، ثم يُتبع ذلك بذكر فضائل الجهاد، ويعدد حالاته، مؤكدا في كل مرة أن الجهاد المقدس يكون "فرض عين" على كل قادر (طبعا، باستثناء نفسه وأبنائه!)؛ عندما يتعرّض المسلمون في أي مكان لحالة اعتداء غاشم.

استنادا إلى كل ما سبق؛ يحق لنا أن نقول: إن (الواعظ التقليدي المحرض) لا يصدر تحريضه عن إساءة فهم دائما، بل هو – في الأغلب الأعم – يصدر عن إساءة قصد؛ اعتقاداً منه أن هذا التحريض يُسهم في تكوين قوى نافذة على الأرض، تدعمه أو تدعم الجماعة/ الحزب/ التيار الذي ينتمي إليه، إضافة إلى أنه – على مستوى المكتسب الشخصي - يرفع من جماهيرية الواعظ عند جماهير الغوغاء. وزيادة على هذا وذاك، يعتقد الواعظ أن هذه القوى المسلحة التي يتماهى معها، ستمنحه، وتمنح زميله الواعظ المنتمي لذات الاتجاه، قوة نفوذ في مجتمعاتهم، بل وفي نطاقهم الإقليمي، بحيث تعزز موقفهم التفاوضي مع حكوماتهم الرافضة لمشروعهم، والتي يخوضون معها صراعا صريحا أو مضمرا بمستويات مختلفة، وفي أكثر من ميدان.

إن التحريض ليس مجرد كلام، ليس مجرد رأي. لا بد أن نعي أن كل المجازر التي تفجّرت داخل المجتمعات المستقرة عبر التاريخ، وتسببت في أن يأكل المجتمع بعضه بعضاً، إنما بدأت بكلام تحريضي، من واعظ ديني في الغالب. مثلا، ما وقع بين الكاثوليك والبروتستانت من مذابح مشهورة في أوروبا قبل قرون، كانت شرارته الأولى تحريض الوعاظ المتعصبين. ولنتذكّر كيف تسببت مواعظ الكاهن الدومينيكاني فنسنت فيرير (1350- 1419م) التي شن فيها حملات على اليهود، في موجة من الإرهاب الدامي ضد اليهود. ولماذا نذهب بعيدا؟، ألسنا نرى اليوم كيف أن كلمات الوُعّاظ المحرضين تدفع بشباب غض، بدأ للتو يتفتح على معنى الحياة، إلى محارق الإرهاب؟!

لا يجوز أن نتغاضى عن حقيقة أن كلمة الواعظ الديني في مسألة الجهاد هي (قرار عسكري)، سواء جنح إلى السلم أو جنح إلى الحرب. هي ليست رأيا، بل قرار. إذا قال الواعظ لأتباعه: إن الجهاد في هذا المكان أو ذاك المكان واجب؛ فمعنى كلامه أنه – بقوة الواجب الديني – يصدر أمره العسكري لهم بالالتحاق بتلك المنطقة. لهذا، يجب أن تُعامل الكلمة الوعظية هنا كفعل؛ لأن ثمة (آمِراً) و(مطيعا)، وفعلاً عنفياً ينتج من هذا وذاك في النهاية.

وهذا يعني أن الشاب الإرهابي ليس أكثر من جُندي، يفعل ما يؤمر به عبر وسيط هيكلي تنظيمي يحكمه الواجب الديني، والواعظ المُحرّض هو – تماما - كالضابط الذي يُصدر الأوامر لجنوده، وبالتالي، يتحمل كامل المسؤولية عما يفعله جنوده المؤتمرون بأمره. أي يجب أن يخضع قبلهم للحساب والعقاب على كل ما اجترحته يد الإرهاب.