محمد خروب

لن تتوقف النقاشات والتحليلات والكّم المتمادي من التوقعات في شأن معاني ودلالات «التحوّل» الذي طرأ على مسار ومسيرة حزب حركة النهضة التونسية، التي استقطبت اهتماما سياسيا واعلاميا وخصوصا حزبيا في اوساط تيارات الاسلام السياسي وعلى رأسها «جماعات» الاخوان المسلمين في اماكن تواجدها التنظيمي، كذلك في صفوف التيارات العلمانية وتلك التي تُشكِّك في نيات معظم–ان لم نقل كل–ما يتصل بتيارات الاسلام السياسي، بعد ان اقر المؤتمر العاشر للحركة، الذي بات يُنظر اليه على انه مؤتمر «تاريخي»، استطاعت الحركة فيه ومن خلاله ان تنتصر على ذاتها وان تستفيد من تجاربها وبخاصة بعد ان عرفت «مذاق» السلطة، واكتوت بنار المعارضة التونسية التي لم ترفع الراية البيضاء ولم تُسلِّم لحركة النهضة امساكها بمفاصل الدولة وتحكّمها بقراراتها بعد ان نجحت في حصد اغلبية مريحة في مجلس النواب «الاول» بعد ثورة 14» جانفي»/ كانون الثاني التي اطاحت حكم بن علي البوليسي الفاسد.

لم تكن تجربة «الترويكا» التي ابتدعتها حركة النهضة للظهور بمظهر الحريص على تقاسم السلطة، مُريحة للحركة او قائدها راشد الغنوشي، الذي كان يعلم ان الإتيان بحزبيين ضعيفين و»قائدين» لا قواعد شعبية لهما، لن ينطلي كثيرا وطويلا على المعارضة التونسية غير المُدجَّنة وذات التاريخ الطويل في مقارعة السلطة الاستبدادية التي انشأها بن علي بعد اطاحة الحبيب بورقيبة، لهذا رأينا كيف تخلصت الحركة من الرئيس الدمية المنصف المرزوقي, ولم تكترث بالمصير البائس الذي انتهى اليه رئيس البرلمان مصطفى بن جعفر وحزبه, بعد الانتخابات الأخيرة التي جاءت بحزب نداء تونس الى السلطة كحزب اول صاحب اغلبية مريحة (قبل ان يتصدع ويتحول الى حزب ثانٍ تتقدم عليه النهضة كحزب أول).

ما اسفر عنه المؤتمر العاشر لحزب حركة النهضة الذي انتهى للتو، يجب ان يدفع كثيرين الى التفكير ملياّ وطويلا قبل الذهاب بعيدا في رفع سقف التوقعات ازاء هذا «التحوّل» الذي ربما يكون الاول في تاريخ جماعة الاخوان المسلمين منذ نشأتها قبل ثمانية عقود, وانتشارها افقياً في معظم البلاد العربية, كما احتكارها تمثيل تيارات الاسلام السياسي بشعارات وخطاب ابتدعته لنفسها واوصدت الابواب جميعا في وجه كل من حاول الاجتهاد او التغيير او تعديل بعض ما التبس على جمهور المؤيدين والمحازبين، ولم يكن مصيره سوى الصدّ او الطرد، او الاتهامات بالخيانة والعمالة حدود الوصم بالردة والتنكّر لمبادئ الاسلام.

لكن ما حدث في المؤتمر «النهضوي» العاشر وما تخلله من نقاشات وتكتلات واصطفافات, يجب وبالضرورة ان يفتح العيون ايضاً, على النفوذ الهائل الذي احتكره لنفسه الشيخ راشد الغنوشي، وكيف قاد المُؤتمِرين الى ما اراد للمؤتمر ان يكون عليه, وبذلك انتهى الى ان يُكرِّس نفسه الرجل «الاوحد» في الحزب، هذا الموقع الذي وصله منذ «44»سنة بلا انقطاع منذ ان تأسست النهضة في العام 1972 والتي بدأت العمل تحت اسم حركة «الاتجاه الاسلامي»... حينذاك.
قد يقول قائل ان الغنوشي لن يستمر رئيساً للحركة الى الابد ,لان هذه الدورة (الرابعة كما يجب التذكير) ستكون «الاخيرة» وفق النظام الداخلي (او دستور) الحزب، لكن ذلك لا ينفي حقيقة ان الرجل واصل البقاء في الموقع نصف قرن، ما يضع تيارات الاسلام السياسي في معظمها امام سؤال الديمقراطية الحزبية غير الموجود اصلا في دساتيرها, وليس مسألة الانتخاب الصوري او المضمون سلفا، سوى محاولة لتجميل هذا الاستئثار بالمواقع التي لا يُستثنى منها اي حزب اسلاموي أيّاً كان اسمه, وإلاّ كيف يمكن للغنوشي ان يحوز على نحو من 80% من اصوات مندوبي الحزب في المؤتمر فيما لم ينل منافسه رئيس مجلس الشورى في النهضة فتحي العيادي سوى 20% من اصل 1058؟.

ثمة تغيير لافت آخر يؤكد ما ذهبنا اليه اعلاه وهو ان الغنوشي نجح بعد اصراره ورفضه اجراء اي تعديل على اقتراحه بان يكون لرئيس الحركة (الذي هو الغنوشي نفسه) الحق الكامل في «تعيين» اعضاء المكتب التنفيذي وعرضهم على مجلس شورى الحركة، بما هو اعلى سلطة في الحزب، كي «يُزكّي» الاسماء فقط, وليس الاعتراض على احد او الرفض.. فأين هي قواعد الديمقراطية التي ارساها هذا المؤتمر «التاريخي» اللهم تلك التي تقرر فيها فصل السياسي عن الدعوي, وهو امر خاضع للاختبار ولا داعي لاستباق الامور الى ان تَنضُج ونرى كيف يتم ذلك, ام انه مجرد قناع او استبدال عباءة (او عبارة) بأخرى؟

تبقى «المفاجأة» المدوّية التي يجب ان لا تغيب عن ذهن احد, وهي ان الشيخ الغنوشي يُحضِّر نفسه كي يصبح الرئيس الثالث «المُنتخَب» لتونس ما بعد الثورة (بعد المرزوقي والسبسي),حيث جاء في تعديل للنظام الداخلي للحركة, أقرّه المؤتمر الأخير يقول: يحِق لرئيس الحركة, الترشُّح لكل المناصب السياسية في الدولة, بما فيها «رئاسة الجمهورية» ورئاسة مجلس النواب..
.. عاش فخامة... الشيخ.