&مسفر بن علي القحطاني

تأتي فكرة النهايات في سياق التبشير أو التحذير من تحولات كبرى، توقعاتها تتضمن الحكم بنهايات مأسوية أو منسيّة أو بعدم الصلاحية لنظريات وأيديولوجيات وأسواق راجت فيها الكثير من الأفكار والرمزيات، مشهد دراماتيكي يُسدل فيه الستار، معلناً نهاية أيديولوجيات بلغت خريف العمر، وفي العادة يصبح الموت نهايتها المتوقعة، وأحياناً يكون إعلاناً لميلادٍ جديد لقضايا وأفكار ستبدأ دورتها الحياتية بعدما تُنفخ فيها روح جديدة، تعقب ما مات منها من دون الحاجة إلى وقت يُسمح فيه بالحداد!

الفكرة الرئيسة من هذه السطور أشبه بمحاولةٍ لرصد نهاية الأيديولوجيا، ليس كما توقعها دانييل بيل في كتابه (نهاية الإيديولوجيا) الذي صدر عام 1961م، حيث قدّر نهاية الأيديولوجيات الشمولية الكبرى كالشيوعية والفاشية والنازية؛ بل الحديث سينصب حول سؤال البدائل التي حلّت مكانها واتصفت بالمرونة والمعاصرة في شكل أكبر عن سوابقها القاطعة الفاصلة التي تحدث دانيل بيل عن نهايتها، فالمراد بالأيديولوجيا في هذا السياق ليس الخوض في كل تاريخيتها ومعانيها التي تفلسف بها هيغل وماركس وفوكو وقبلهم دو تراسي وغيرهم، وإنما السعي لوضع علامات حدودية لهذا اللفظ المطاط بالمعاني، والمثقل بالأنساق الفكرية التي تُكوّن عقلاً وحجاباً على هذا العقل في آنٍ واحد، بحيث يتجه في معرفة الوقائع والظواهر وفق ما تمليه التفسيرات وتترجمه السلوكيات من مظاهر ورؤى متنوعة (انظر: موسوعة لالاند الفلسفية تعريب أحمد خليل، ونشر دار عويدات 2012م ،2/611)، ولمزيد من التحديد سيكون المقال مختصاً بالأيديولوجيات الإسلامية والليبرالية بمظاهرها وأشكالها ورمزياتها الواقعية، والمحدد الآخر وهو الأهم، فيختص بالشباب العربي وموقفهم من تلك الأيديولوجيات، هذه المحددات والمتعلقة بمفردات غنية في التناول (نهاية الأيديولوجيا، الإسلامية، الليبرالية، الشباب) تتطلب المزيد من الضبط للوصول إلى فرضيات فكرة المقال، ولعلي من خلال بعض التساؤلات أن أبين المقصود وحيثياته الواقعية من خلال ما يلي:

أولاً: هل نحن – فعلاً - في عصر نهاية الأيديولوجيا الإسلامية والليبرالية؟ لا شك أن هذا الزعم يتطلب الكثير من الدراسة حوله والقراءة الواقعية في صحته ومدى التمكن من قياس الأثر، لكن من الجزم أيضاً أن ما نعيشه من تحولات تقنية ومعلوماتية وثورة تواصل واتصال، شكّلت حالةً جديدة لها أنماطها وصفاتها المختلفة عما سبق، وفي ظل أحداث كبرى تعيشها البلاد العربية أضحت الأيديولوجيات الكبرى المهيمنة، في محك النقد وبعضها في مهب الريح، فالإسلاميون الذين برزوا في الثمانينات وتواصل نموهم في شكل أكبر عندما تحصل مواجهات ميدانية مع غزو خارجي كما حصل للعراق وأفغانستان في 2003م، أو مواجهة داخلية مع البؤس أو الاستبداد، فإن الأيديولوجيا الإسلامية بخطابها التعبوي والأبوي والروحي تملأ كل الفراغ الفكري والاجتماعي في نفوس وعقول الملايين، لذلك يعتبر جمهور الإسلاميين هو الغالب في كل المشاهد العربية، لكن مع موجة الثورات العربية ومنذ 2011م وهذا المقام الفريد قد بدأ يهتز وتتعثر مسيرته ويرتد على عقبه، وذلك لعدة عوامل، منها: فشل بعض الحركات الإسلامية في السلطة ومصداقية مشاريع التنمية التي أصبح المواطن في أشد الحاجة إليها، وتحول هامش الاستقرار – مع ضيقه - إلى كابوس اقتصادي وسياسي يهدد يومه فضلاً عن تلاشي أحلامه بالوعود الزائفة، والحالة المصرية والسودانية والشامية والعراقية سببت أزمة حقيقية لدى الفرد العادي من صحة برامج ووعود الإسلاميين، والتبرير بالقوى المعادية كان مؤثراً على فشلهم حقيقةً، لكنهم لم يذكروه للناس وهم يقتحمون غمار الانتخابات أو يعلنوه في نشوة الانتصارات الأولى، وإنما حضر هذا العامل عندما شعروا بالفشل، فعلقوا عليه أسباب التراجع والانهزام.

وبناء على ما سبق وغيره تراجع حضور الإسلاميين في شكل ملحوظ في الساحة السياسية التي تعتبر مهرجان عرض الوعود والبرامج الإصلاحية، فعلى سبيل المثال فازت حركة النهضة التونسية بنسبه 41,47 في المئة في 2011م، وفي الانتخابات التالية جاءت في المرتبة الثانية بنسبة 31,79 في المئة، في 2014م، وفي الأردن شاركت جماعة الإخوان المسلمين في انتخابات 1989م،حيث حصلت على 22 مقعداً نيابياً، وشاركوا في الحكومة بخمسة وزراء، وفي 2007م حصلت على ستة مقاعد فقط، أما في الكويت فإن الحركة الدستورية الإسلامية، الجناح السياسي لجماعه الإخوان المسلمين سابقاً فازت بمقعد واحد في برلمان (مجلس الأمة) 2009م، مقارنة بثلاثة مقاعد في برلمان 2006م، كذلك تراجعت شعبية التحالف السلفي الإسلامي الذي فاز بمقعدين فقط في برلمان 2009م مقارنة بأربعة مقاعد في انتخابات 2008م.

هذه الأمثلة تمثل أفضل القوى السياسية الإسلامية العربية، ومع ذلك تراجعت شعبياً بنسبة كبيرة، فضلاً عن التراجعات التي أصابت قوى إسلامية أخرى نتيجة الانقسامات أو الانقلاب العسكري عليها.

أما الحالة الليبرالية فكانت بعد أحداث 11 سبتمبر تمر بنشوة كبرى دفعتها لأن تكون أيديولوجيا المستقبل، كما قرر ذلك الدكتور تركي الحمد في مقال له ، قال فيه: «انتصرت الليبرالية في النهاية، والديموقراطية الليبرالية تحديداً، ليس لأنها من طبيعة الأمور، فالأمور في النهاية لا طبيعة لها إلا ما نفترض نحن أنه طبيعة لها، ولا لأنها غير مؤدلجة أو نافية للأيديولوجيا، فهي بذاتها أيديولوجيا في النهاية، ولكن لأنها إيديولوجيا مستوعبة لكافة الإيديولوجيات، بل يمكن القول إنها أيديولوجيا الأيديولوجيات من هذه الزاوية» (صحيفة الشرق الأوسط العدد 8755)، هذه الأيديولوجيا القائمة على حرية المشاركة والدعوة للتعددية والتعايش المتسامح، لم تظهر بهذه القيم السامية لما بدأت الثورات العربية وقفز بعض الإسلاميين على صناديق الاقتراع، فقد تحول دعاة الحرية في بعض مناطقنا العربية إلى دعاة قمع وتحريض ومناكفات ساقطة لا تمت لليبرالية بصلة، وهذا ما دعا صحيفة الواشنطن بوست في افتتاحيتها (14 مارس 2016م) للتأكيد «أن القيم الليبرالية مثل الشفافية وإعلاء سلطة القانون واحترام كرامة الإنسان تشهد تراجعاً على المستوى العالمي» كما أن روجر كوهين في النيويورك تايمز كان أكثر جرأة بوصف الليبرالية بالموت عندما قال: «لقد ماتت الليبرالية، أو هي على الأقل على حبال المشنقة. وكما بدت منتصرةً قبل ربع قرن عندما ظهر أن الديموقراطية الليبرالية قد غلبت وفي شكل نهائي اليوتوبيا الشمولية التي فرضت ثمناً باهظاً بالدماء، ها هي اليوم تحت الحصار من الخارج ومن الداخل» (عدد 17 أبريل 2016م) ويؤكد كوهين قتامة الصورة الليبرالية عندما جعل التكنولوجيا الحديثة صورة من السيطرة الجديدة على الإنسان بشكل مبالغ في الجشع والتلاعب بالبشر.

هذه المؤشرات السابقة تجعل الحديث عن نهاية الايدولوجيات الكبرى في منطقتنا واقعياً إلى حدٍ بعيد، لكن الأمر لا ينتهي عند معرفتنا بهذه الحقيقة حتى لو جزمنا بها، وإنما يكمن في مدى تقديرنا لمستقبل هذه النهاية، وما هي البدائل التي يمكن أن تحل بمجتمعاتنا بعد هذه النهاية.

ثانيا: ما هو موقف الشباب العربي من سيناريو نهاية الأيديولوجيات؟ الشباب العربي يمثل ثقل سكاني وحافز تنموي كبير في المنطقة، وبرز دوره كعامل سياسي مؤثر في الثورات العربية، وتعرض لمحاولات استقطاب من أحزاب وتيارات قدّمت له الكثير من الاغراءات، وقدّم لها في المقابل آماله وأحلامه لأجل حياة كريمة يسعد بها، بيد أن تلك الحركات سواء الإسلامية أو الليبرالية، قد بددت أمنه وحلمه إلى مخاوف عبّر عنها استطلاع رأي قام به المركز العربي بالدوحة، أظهر أن نسبة من أبدى قلقه وخوفه من تنامي صعود الحركات الإسلامية قرابة 53 في المئة في مقابل 40 في المئة لم يبدوا مخاوفهم منها، في حين أبدى 37 في المئة مخاوفهم من صعود الأحزاب العلمانية للحكم في البلاد العربية مقابل 41 في المئة لم يبدوا مخاوفهم.

&فهذا المؤشر النسبي يُظهر تنامياً ملحوظاً في قلق المجتمع من هذا الصعود لو قارناه باستطلاعات الأعوام السابقة، وقد تكون الثورات العربية وإخفاقاتها أحد المحفزات التي ساهمت في تغيير قناعات الكثير حول جدوى تلك الأحزاب السياسية، واعتقد أن الشباب المتعلم في الحواضر، وهم من يمثل الكتلة الحرجة وعصب الحركة لأي قوة في المجتمع، يرى حدوث تحولات كبيرة في تلقيهم وتعاطيهم مع المواقف والرموز، فالمعطيات التقنية والتواصلية وتنامي الوعي بالجديد لأشكال الحياة، بالإضافة لانفتاحهم على كافة الثقافات، سمحت لهم بالركون لأنفسهم والاعتداد بما لديهم، مقارنةً مع من يرونهم قادة المجتمع ورموزه، كما أن مواقع التواصل الاجتماعي جرّدت هيبة الكثير، وكشفت عن انحسار قيمي ومعرفي لدى أولئك الرموز من كافة التيارات، ما جعلهم يأنفون منهم ويتناولونهم بالنقد والتقويم المفضي لنزع كل صور التأسي والتبجيل، وهذا ما جعل الشباب الواعي اليوم أكثر قدرة وفحصاً للخطاب والأفكار، ولديهم ملكة التمييز التي تجعلهم يبحثون ويتعرفون إلى مجاهيل إعلامياً وجماهيرياً، لكنهم يحققون له الثراء المعرفي والإقناع العقلي، وبالتالي أعلنوا بوضوح عن انتهاء الزعيم المقدس والشعارات الهشة والتصفيق والهيام مع كل نجم تبرزه المنابر وتروج له وسائل الإعلام، وهذا ما يحتم طرح السؤال المقبل وبإلحاح.

ثالثا: إلى أين يسير الشباب وما هو الطريق الجديد أمامهم؟ لا تعني نهاية الأيديولوجيات بالنسبة إلى الشباب أنهم سيخرجون عن أي جديد أيديولوجي، لكن يبدو أن هناك قطيعة شبابية تأبى الانخراط في الأحزاب التقليدية، في مقابل الإيمان بالبرامج العملية الواقعية، كما أن الشباب العربي الواعي تجاوز إغراءات الشعارات بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية نحو معايير التحقق وموافقة القول العمل، اليوم يظهر جيل الشباب العربي متناغماً مع قرنائه من الشباب في العالم، محاكياً لهم متقارباً معهم في قرية صغيرة، لذلك يبدو سمتهم البعيد متحداً، وطريقهم يتجه نحو الشعور بالرضا القيمي أكثر من الإحساس به حقيقةً، وميلهم نحو الإمتاع الاستهلاكي كبيراً ومتنامياً، والعيش في بيئات افتراضية مع آخرين متشابهين يوازي انعزالهم عن بيئتهم الواقعية بعيداً عن الأقربين.

إن الصانع الحقيقي لطريق المستقبل لأولئك الشباب هو من يملك دفعهم ومنعهم واغراؤهم وتثبيطهم وإلهامهم دون الحاجة لسلطة السوط أو التهديد بالخوف، إنها القوة الناعمة التي يخضع لها الشاب العادي ويقضي أغلب يومه في مخدعها، ويتعايش معها مهما كانت سرعة وتقلب أحوالها، إنها طريق السليكون أو كما سماه بيل غيتس «الطريق المقبل» الذي رسمه لمستقبل العالم (نشر الكتاب في 1995م وترجمه د. فتحي بن شتوان ونبيل عثمان، الدار الجماهيرية، ليبيا، 1999)، ثم قامت شركة غوغل وفايس بوك وسناب شات وتويتر وأخواتهم بوضع لمسات الإغراء على هذا الطريق، ورغماً عن أنواف المكابرين من المنظرين الكبار، فإن هناك الكثير من الجموع الشابة مقبلة متزاحمة على هذا الخيار من دون حاجة لخطيب مقدس أو شعار مسيّس.