&&راجح الخوري&&

ما صنعه تاريخ طويل من العلاقات المميزة بين لبنان والمملكة العربية السعودية، لا يمكن لحقبة من شطط سياسي وحزبي يصادر إرادة الدولة اللبنانية ويأخذها إلى ميادين تتعارض مع مصلحة لبنان الوطنية ومع المصالح العربية، أن تتجاوزه وتلغيه، ففي النهاية تنحسر الغيوم وينتهي الصخب والصراخ، وتعود السماء السياسية الممتدة بين بيروت إلى الرياض صافية وهادئة ومريحة كما كانت دائمًا.

مناسبتان متلاحقتان تقريبًا تؤكدان هذا الواقع؛ المناسبة الأولى كانت عندما تقاطر لبنان بكل طيفه السياسي الرسمي والحزبي والوطني، ليسجّل حضوره في اليوم الوطني السعودي الذي أقيم في مجمع «البيال» قبل أسابيع، حيث قال السفير علي عسيري إن المناسبة سعودية والاهتمام لبناني عربي، وإن فرحة المملكة لا تكتمل إلا بفرحة أشقائها وراحتهم وأمنهم واستقرارهم، مناشدًا اللبنانيين الحفاظ على بلدهم وبذل كل الجهود في سبيل حمايته وتحصينه عبر تعزيز وحدتهم الوطنية وانتخاب رئيس جديد للجمهورية يقود البلاد ويطلق الحوار الوطني.

أما المناسبة الثانية فكانت نهاية الأسبوع الماضي عندما اختار السفير عسيري، أن يجمع كل العائلة السياسية والروحية اللبنانية تقريبًا في دارته أو في «البيت السعودي»، إلى مائدة عشاء غلبت فيها نكهة الحضور الجامع من كل المناخات والاجتهادات، وخصوصًا أنه يأتي عند مفترقات لها معنى ومغزى:

أولاً - لأن الفراغ في رئاسة الجمهورية يكاد يدخل عامه الثالث وهو ما يراكم من الشلل العام تقريبًا وينعكس سلبًا على مسيرة الدولة، كما على الدورة السياسية والاقتصادية وحتى على مسار علاقات لبنان مع العالم الخارجي، وفي هذا السياق حرصت السعودية دائمًا وفي كل مناسبة على أن تدعو اللبنانيين وتحضّهم على انتخاب رئيس جديد يملأ الفراغ في رأس الدولة ويعيد انتظام الحياة العامة، وعلى هذا كان السفير عسيري قد ضمّن خطابه في اليوم الوطني مناشدة الأشقاء اللبنانيين انتخاب رئيس جديد بما يقطع الطريق على دورة تعطيل الدولة ويغلّب لغة العقل والمنطق والحكمة والاعتدال.

ثانيًا - لأن المرحلة الراهنة أثبتت قدرة اللبنانيين على تجاوز ثقافة التعطيل، التي يبثها البعض متعمدًا في دورة النظام السياسي بهدف نسفه وتغييره، من خلال الدعوة ضمنًا إلى مؤتمر تأسيسي يعمل لإسقاط «دستور الطائف» الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، وهذه المرحلة تحديدًا تتمثل في إقبال اللبنانيين وانتظامهم لإجراء الانتخابات البلدية والاختيارية، التي أفرزت حتى الآن مفاجآت سياسية غير محسوبة عند المحادل الحزبية والسياسية والتحالفات الضاغطة، عندما تبين مثلاً أن الثنائية الشيعية أي تحالف «حزب الله» و«حركة أمل» لم تعد جارفة في مناطقها كما كانت، وعندما تبين أيضًا أن تحالف الجنرال ميشال عون والدكتور سمير جعجع ليس جارفًا في مناطق المسيحيين كما كان يُظن!

ثالثًا - لأن المناسبة الجامعة أُعطيت وسط الأجواء الراهنة نكهة لقاء عائلي، فهي تأتي عشية شهر رمضان المبارك، مما يوحي بمدى حاجة الأفرقاء اللبنانيين المتخاصمين إلى الصوم عن خلافاتهم والخصومات، وإلى الدخول في فضيلة التفاهم والحوار وردم هوة الفراغ في رئاسة الجمهورية وإطلاق دورة أكثر عافية وحيوية في مؤسسات الدولة وسلطاتها.

كانت كلمة السفير عسيري الأكثر حرارة في تلك المناسبة، التي جمعت كل العائلة السياسية اللبنانية المنقسمة والمتخاصمة في البيت السعودي الرحب والمحبّ، فلقد خلعوا الوجوم عند البوابة الخارجية وتركوا الحذر في سياراتهم ومع مرافقيهم، وانتزعوا الأقنعة العابسة ووضعوا الأقنعة التي بدأت مبتسمة ثم لم نلبث أن سمعنا قهقهات الكثيرين منهم يضحكون من القلب، ففي «البيت السعودي» جو ودفء يذكّران بأن «نصف الألف خمسماية» كما يقول المثل اللبناني!

وهكذا لم يكن مفاجئًا أن يكرر عسيري اسم لبنان 35 مرة في كلمته الممتازة، «إن سجلّ العلاقة الأخوية يجمع بلدينا بأرقام من محبة لا تحصى وبتوقيع من خمسة أحرف عزيزة.. لبنان» ليكون تصفيقًا حارًا لا للبنان وحده، بل لهذه المحبة الساخنة للبنان وأهله. ثم وبلهجة أخوية جاء النداء «في داخل كلٍ منكم من الحس الوطني والمسؤولية الأخلاقية والحرص اللامتناهي على مصلحة لبنان، ولهذه المشاعر أتوجه وأوجّه نداءً صادقًا أن يقوم كل واحد منكم بخطوة نحو الآخر دون انتظار من يكون البادئ، وأن تبادر القيادات إلى حوار يختلف عن كل الحوارات السابقة، حوار عنوانه «إنقاذ لبنان» لأن الوقت يمرّ والأخطار تزداد والحرائق لا تزال تندلع وتتمدد ولبنان لم يعد قادرًا على الاحتمال.. ».

كانوا كلهم هناك، كل العائلة السياسية والحزبية والدينية تقريبًا، ولم يكن عسيري المتحدث، بل كانت عمليًا كل قلوب اللبنانيين وعقولهم هي التي تتحدث، ليسمع الذين في أيديهم وربما عليهم أن يستعيدوا «الحل والربط»، بما يساعد وطنهم لبنان على الخروج من النفق المظلم الذي يجرجره البعض فيه وإليه، ولم يكن من المستغرب مثلاً أن نقرأ في اليوم الثاني تعليقًا للوزير السابق جان عبيد الساكت عمدًا وتعففًا وسط «زعيق» الآخرين، وهو أحد أفضل المرشحين لرئاسة الجمهورية، يقول:

«من اللافت أن يتمكن هذا الرجل المحب للبنان بهذا المقدار والكياسة من أن يؤلف بين من التقوا في رحاب منزله، ولا يتمكن كثير منهم أن يلبوا نداء الوطن والضمير والمصير.. إن خطاب السفير عسيري ليس نداء إلى اللبنانيين ومسؤوليهم فحسب، إنه مهماز لضمائرهم وقدوة لمسؤوليتهم واستنفار لوجدانهم من الأعماق، وعسى ألا تذهب روح هذا الكلام وتفاعلاته ومستلزماته ومتوجباته مع الريح».

لكنها السعودية عندما تجمع العائلة السياسية اللبنانية قائلة: لبنان لكم فلا تتخلوا عنه، لبنان يناديكم فلبوا النداء، لبنان يستحق بذل الجهد فلا توفّروا جهدًا في سبيله، لبنان أمانة في أعناكم فاحرصوا على الأمانة، وهو لبنان الذي يحبه الملك سلمان ويحتفظ له بمكانة مميزة من الاهتمام والحب.

إنها علاقة سيامية بين السعودية ولبنان، ففي النهاية لا السعودية تاركة لبنان ولا لبنان يترك المملكة التي خصته دائمًا بميزة مقلة العين وواسطة العقد العربي، وما صنعه تاريخ من المحبة لا تلغيه غيمة عابرة حتمًا، وما قاله الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود قبل 64 عامًا، وتحديدًا عام 1952 لكميل شمعون وهو أول رئيس لبناني زار المملكة على رأس وفد رسمي رفيع بعد تسلمه الحكم، يبقى راسخًا في التاريخ والحاضر والمستقبل سندًا للعلاقة بين البلدين.

يومها قال الملك المؤسس إن نسيج لبنان وتعدد طوائفه ومذاهبه يعطيه ميزة وفرادة، لكنه يوجب عليه البعد عن المحاور والتحالفات، ويستدعيه إلى أهمية الحوار والتفاهم والتعاضد بين جميع الأطياف والأفرقاء اللبنانيين، لينعم لبنان بالأمن والاستقرار بعيدًا عن الأطماع، وفي إطار من الوحدة الوطنية الراسخة التي تحميه وتصون استقلاله.

&

&

&