&محمد علي فرحات

لامس زعيم حركة النهضة في تونس راشد الغنوشي منطقة حساسة في فكر الإسلام السياسي هي فصل الدين عن الدولة. لم يصل إلى ذلك صراحة بل اكتفى بالفصل بين العمل الدعوي والعمل السياسي الحزبي، لكن متابعي المؤتمر العاشر لحركة النهضة أفادوا بأن قرار الغنوشي لم يتعدّ توزيع المحازبين إلى فئتين، الأولى تهتم بالشأن السياسي والثانية بالشأن الخيري اللصيق بما يسمونه الدعوي. لم يلامس الغنوشي ثوابت الإسلام السياسي بل لم يهزّ شعرة منها، وما حصل لا يعدو زوبعة في فنجان، إذ أطلق الغنوشي على توزيع عمل المحازبين تعبير «التخصص»، وتبعاً لذلك فالمحظوظون هم المنتدبون إلى العمل الخيري/ الدعوي، إذ يتولّون توزيع الذبائح في الأعياد والمناسبات ومعها الحصص الغذائية والمساعدات المالية التي تخفف معاناة الفقراء والمعوزين، ولا يخفى أن العامل في هذا المجال يحظى بتقدير اجتماعي يعلو على تقدير الناشط السياسي.

مع ذلك، التقط مؤيدو الغنوشي ومعارضوه قرار «التخصص» هذا قبل إعلانه، فنصحه رجب طيب أردوغان بتأجيل القرار أو إلغائه، واعتبره شبان من «إخوان» مصر فرصة لنقل تجربة «النهضة» إلى حزبهم الغارق في مقولات لحسن البنا لا تصلح لزمننا بمقدار ما لم تكن تصلح لزمنه (عام 1928)، إذ تربط الدين بالدولة بمقدار ربطها المصحف بالسيف. لكن غالبية «الإخوان» المصريين عارضت الغنوشي، فلماذا يقلّدون زعيماً إسلامياً في بلد صغير كتونس فيما رفضوا تقليد إسلامي آخر (رجب طيب أردوغان) في بلد كبير كتركيا، حين نصحهم بالعمل السياسي في إطار دولة مصرية علمانية.

ولأن قادة جماعات الإسلام السياسي تحوم حولهم الشكوك، اعتبر كثيرون قرار الغنوشي، على محدوديته، إشارة من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، موجّهة الى الرأي العام الإسلامي كما إلى أوروبا وأميركا، بعدما ضاق العالم كله بالإسلام السياسي الذي يدمّر حواضر عرب ومسلمين ويفكّك معظم دولهم ويضعهم في مواجهة لا يريدونها مع شعوب العالم الأخرى. كما أن غالبية العالم تحمّل «الإخوان» في فروعهم ذات الأسماء المتنوّعة مسؤولية إرهاب يرفع شعار الإسلام.

إشارة «التخصص» المحدودة للفصل بين السياسي والدعوي، حظيت باهتمام عالم لم يتوصل بعد إلى سبيل لحماية الدولة الحديثة والحريات العامة والتعايش بين الأفراد والجماعات في إطار القانون، فهذه كلها تتعرض لهجمة بربرية تؤذي صورة الإسلام والمسلمين. والحل مطلوب من جماعات الإسلام السياسي التي أطلقت هذا الشر المستطير وليس فقط من الدول وجماعات المجتمع المدني.

ومبعث الاهتمام أن الغنوشي يجمع بين صفتي المفكر والزعيم، فيعتبر قليله موازياً بل متفوقاً على الكثير مما لدى مفكرين مسلمين ناهضوا الإسلام السياسي وحذّروا منه، ونذكر هنا، مثالاً لا حصراً: فضل الرحمن ومحمود محمد طه وعبدالمجيد الشرفي وفضل الله خليفي ورضوان السيد وأحمد رشيد ومحمد الرميحي وعمار علي حسن ونبيل عبدالفتاح.

ويترافق الاهتمام الأوروبي بإشارة الغنوشي المحدودة، مع إقرار ألمانيا قانوناً يلزم المهاجرين بحضور 600 ساعة من حصص تدريس اللغة الألمانية و100 ساعة من التوجيه الثقافي انتهاء باختبار العيش المشترك، وقال وزير الداخلية الألماني: «لا نريد مجتمعات موازية، ومن خلال القانون الجديد نتيح لمن سيعيشون حياتهم في ألمانيا فرصة القيام بدور فعّال في مجتمعنا ونطالبهم بذلك أيضاً». أما فرنسا، فأقر برلمانها مشروع قانون لمكافحة الجريمة المنظّمة والإرهاب، سيكون بديلاً من حال الطوارئ المعمول بها حالياً. وعلى رغم معارضة أنصار البيئة والشيوعيين أقرت الغالبية ما اعتبرته نموذجاً فرنسياً لمحاربة الإرهاب، على رغم انه يحدّ من حريات كثيرة لكنه يفرض قدراً من الأمن صار مطلوباً بل ضرورياً مع الهجرة الكثيفة والتهديد الإرهابي.

زوبعة راشد الغنوشي لن تبقى في فنجانه، فالإسلام السياسي الذي يعادي إيمان المسلمين وسائر البشر، لا بد أن ينحسر، وأول الانحسار نقد ذاتي واضح لا عملية «تخصيص» للمحازبين.