محمد الصياد

لطالما أعلنت الولايات المتحدة عن تخطيطها لإقامة درع صاروخية في أوروبا ضمن طموحاتها الاستراتيجية لإدامة هيمنتها الكونية. وقد تنقلت هذه الخطط بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ ستينات القرن الماضي، لكن موانع موضوعية، مثل بدائية تكنولوجيا الصواريخ المضادة للصواريخ، والتكلفة الباهظة للمشروع التي قدرت آنذاك بنحو 40 مليار دولار، حالت دون تنفيذه، وفضلت واشنطن عوضاً عنه التوقيع في عام 1972 على معاهدة الحد من انتشار الصواريخ الباليستية، وهي الصواريخ أرض- جو مصممة لاعتراض الصواريخ الباليستية المستخدمة لحمل رؤوس نووية، أو كيماوية، أو بيولوجية، أو رؤوس حربية تقليدية تتحرك بقوة الجاذبية في وجهتها البالستية القتالية. فقد حظرت هذه المعاهدة إقامة مثل هذه الشبكات القومية الدفاعية (أي التي تغطي ليس فقط الأراضي الأمريكية، وإنما أراضي الحلفاء أيضاً)، وأبقت الأجواء عرضة للهجوم المتبادل كوسيلة ردع لكل الدول، حيث لم يعد بمقدور أي دولة أن تُقدم على استخدام صواريخ باليستية عابرة للقارات، خشية أن يتم الرد عليها بالمثل من قبل الدولة التي تعرضت للهجوم.

ولما كان حلف شمال الأطلسي هو الولايات المتحدة، والولايات المتحدة هي حلف شمال الأطلسي، فإنها إذ لم تتخل عن عقيدتها السيادية الكونية، فقد دأبت على تسريع أبحاثها العسكرية للوصول إلى مبتغاها المتمثل في ضرب أهداف «العدو»، وهو هنا روسيا والصين، بالصواريخ الباليستية، والتمكن من إسقاط الصواريخ المضادة، وتحين الفرص لنصب هذه المنظومة الدفاعية على أراضي الدول الأوروبية التي تم افتكاكها من المنظومة السوفييتية وإدخالها حلف شمال الأطلسي. وهذا ما حدث بالفعل، فقد حضر مساعد وزير خارجية الولايات المتحدة لشؤون مراقبة التسلح فرانك روز، يوم الثاني عشر من مايو/أيار الماضي مراسم تشغيل المجمع الأرضي لمنظومة الدرع الصاروخية الأمريكية المزودة بصواريخ اعتراضية طراز ( Standard Missile3) في القاعدة العسكرية ديفيسيلو في رومانيا. أي ان «البنتاغون» بدأت رسمياً بنشر منظومتها الصاروخية في أوروبا.

في اليوم التالي، الموافق للثالث عشر من مايو/أيار الماضي، حضر نائب وزير الدفاع الامريكي روبرت وورك مراسم حفل وضع حجر الأساس لبدء عملية بناء قاعدة الدفاع المضاد للصواريخ (الدرع الصاروخية) في قرية ويدزيكوفو في شمال بولندا المنتظر جاهزيتها في عام 2018 بتكلفة قدرت بنحو 300 مليون دولار. وبهذه المناسبة صرح راعي الحفل نائب وزير الدفاع الأمريكي قائلاً بكل وضوح: «إ وضع حجر الأساس يعني بدء العمل في إقامة المرحلة النهائية، الثالثة، في الدرع الأوروبية لمنظومة الدفاع المضادة للصواريخ، وان القاعدة البولندية ستعمل لحماية القسم الشمالي والأوسط من أراضي حلف الناتو، وحينذاك يمكن القول إنه تم إنجاز بناء صرح الدفاع المضاد للصواريخ التابع للناتو. وهو ما سيسمح بحماية كل اوروبا من خطر الصواريخ الباليستية، وإن الرد على التحديات في مجال الأمن يتطلب تطوير الناتو في القرن الحادي والعشرين». بدوره أشاد أمين عام حلف الناتو ينس شتولتنبرغ، بقرار بولندا تقديم الموقع العسكري في بلدة ريدزيكوفو لنشر مجمع آخر من طراز «إيجيس»، في ذات الوقت الذي كانت تجري في القرية الواقعة في شمال بولندا فعاليات احتجاجية نظمها السكان المحليون احتجاجاً على بدء تشييد القاعدة الأمريكية. 

وكان لابد أن تستدعي هذه الخطوات المفضية لإعادة إحياء سباق التسلح في أوروبا، رداً روسياً غاضباً، عبر عنه أكثر من مسؤول روسي، من بينهم رئيس هيئة الأركان الروسية الذي شدد على أن نشر المنظومة الأمريكية يرافقه انتهاك لبنود الاتفاقية الخاصة بالصواريخ ذات المدى المتوسط والقصير. وان هدفها استخدام وحدات إطلاق رأسية MK-41 في منظومة الدرع الصاروخية «Aegis Ashore» التي تسمح باستخدام الصواريخ المضادة من نوع «ستاندرد-3» التي يمكن استخدامها في إطلاق الصواريخ المجنحة من نوع «توماهوك».

موسكو لم تكشف عن ماهية الإجراءات المضادة التي ستتخذها رداً على نشر منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا. إنما المرجح أن يتم توجيه صواريخ «كاليبر» فائقة الدقة التي تطلق من البحر، والتي يمكنها إصابة أي هدف في رومانيا وبولندا عند إطلاقها من البحر الأسود. وهناك الصواريخ فائقة الدقة التي تحملها الطائرات البعيدة المدى التي يصل مداها وفق بعض المعطيات إلى 5 آلاف كلم، أي التي يمكن أن تُطلق خارج مدى المضادات الجوية للعدو. وكانت القيادة الروسية أعلنت مراراً بأنه في حال نشر منظومة الدرع الصاروخية فإنها سترد بنشر منظومات صواريخ «اسكندر- إم» على مقربة من حدود الناتو. وهي صواريخ يمكن أن تحمل رؤوساً تقليدية ونووية.