محمد م. الأرناؤوط: خلال السنوات الأخيرة لم يعد الانقلاب الصيفي وحده في 21 حزيران (يونيو) يـــرفع حرارة التوتر بين ألبانيا واليـــــونان، بل أنّ 27 حزيران هو يوم التــــوتر بين البلدين بسبب المسيرات التي تقــــوم بها الأقلية الألبانية التشامية التي طردت من اليونان في 1945 وسط مجازر مـــروعة مــــن جانب قوات المعسكر اليميني بقيادة الجنرال زرفاس خلال الحـــرب الأهليـــة التي استمرت حتى 1949. وعلى رغـــم أن اليسار عـــاد الى الحكم مؤخراً في اليونان وألبانيا إلا أن مشكلة «التشام» تفجّــر من حيـــن الى آخر المشاعر والمواقف السياسية هنا وهناك وكأن التاريخ لا يزال واقفاً عند نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي هذا العام بالذات بدأ التوتر بين ألبانيا واليونان في وقت مبكر من هذا الشهر.

مشكلة الألبان «التشام»

ينتسب الألبان «التشام» الى اقليم تشامريا Çamëria الذي يمثل منطقة اثنوغرافية لها خصائصها في اللهجة والأزياء الشعبية والفولكلور وكانت تشكّل أقصى الامتداد الألباني نحو الجنوب حتى 1912. ومع اندلاع حرب البلقان التي انتصرت فيها اليونان وتوسّعت نحو الشمال وترسيم الحدود بين اليونان وألبانيا الجديدة في 1913 دخل معظم هذا الإقليم ضمن اليونان ولم يبق منه مع ألبانيا سوى جزء بسيط.

وبدأت المشكلة بعد احتلال ايطاليا ألبانيا في نيسان (أبريل) 1939 ومن ثم محاولتها احتلال اليونان في خريف 1940، حيث سعت الى تجنيد بعض الألبان بحجة «تحرير تشامريا» وضمّها الى الوطن الأم. وبعد انكسار ايطاليا اجتاحت ألمانيا اليونان الى أن اضطرت الى سحب قواتها في خريف 1944 للدفاع عن برلين، وهو ما أشعل التنافس بين اليمين واليسار عشية الحرب الأهلية للسيطرة على المناطق التي تخليها القوات الألمانية. ونظراً إلى أن تشامريا تطلّ على البحر الأدرياتيكي فقد شجعت بريطانيا قوات المعسكر اليميني للسيطرة عليها لضمان وصول الدعم بالسلاح والعتاد الى الجنرال زرفاس. ولكن قوات الجنرال زرفاس تمادت مع السكان «التشام» بحجة تعاملهم مع قوات الاحتلال الإيطالي - الألماني وقامت بارتكاب مجازر جماعية وتطهير عرقي وصل الى الذروة في 27 حزيران 1944. ونتيجة لهذه الأعمال اندفع قسم كبير من الألبان التشام للهجرة الى ألبانيا المجاورة، التي كانت قد خرجت لتوها من حرب أهلية انتصر فيها الحزب الشيوعي الألباني. وفي البداية وزّعت الحكومة الألبانية هؤلاء اللاجئين في معسكرات عدة في جنوب ألبانيا من دون أن تتمكن من تقديم أي شيء لهم، وهو ما تكفلت به منظمة الأمم المتحدة للإغاثة UNRRA التي تكشف الصور في أرشيفها عن الحالة المريعة لهؤلاء اللاجئين عند وصولهم.

ومع أن النظام الشيوعي الجديد طرح قضيتهـــم في 1946 أمام مؤتمر السلام في باريس إلا أنه أغلق حدوده في 1948 بعد النزاع مع يوغسلافيا التيتوية وتطور الحرب الأهلية في اليونان وقام بمنح الجنسية الألبانية لكل التشام بقرار واحد ووزّعهم في كل أرجاء ألبانيا لكي يذوبوا بين بقيـــة الألبان على قاعدة أن «الكبار يمـــوتون والصغار ينسون». ولكن تصدّع النظام الشيوعي في 1990 كان له فعل السحر فــي الألبان التشام الذين أصبح لهم كيان سياسي يعبّر عنهم (الحزب الديمـــوقراطي للعدالة والاندماج) وتحولوا الى قوة انتخابية يغازلها اليمين واليسار. ومـــع أن هذا الكيان السياسي لم يعد يطالب بعودة «التشام» الى اليونان واسترداد جنسيتهم وأملاكهم بل الاكتفاء باعتذار اليـونان عن المجازر الجماعية وتعويضهم عـــن أملاكهم، إلا أن هذا الحزب أصبح عنـــصر التـــوتر الدائم بين ألبانيا واليونان لأن أثينا لا تعترف بأية حقوق لهؤلاء الذي يبلغ عددهم في ألبانيا حوالى 150 ألفاً.

التوتر الجديد في العلاقات

فــــي سيــــاق الغزل بين اليميــــن واليسار والتشام في ألبانيــا عشية الانتـابات قام الحـــزب الاشتراكي (وريث الحزب الشيوعي الألباني) في أيار (مايو) 2015 بتحالف انتخابي مفاجىء مع حزب التشـــام الذي يرأسه شبتيم إدريسي لتشكيل قوائم مشتركة ضد اليمين في الانتخالات البلدية المهمة التي جرت في حزيران 2015 على أن يرشح رئيس الحزب لمنصب نائب رئيس البرلمان الألباني، وهو ما جعل أثينا تحتج بعنف على اعتبار أن ادريسي يمثل «النزعة الانفصالية» التي تريد فصل تشامريا عن اليونان وضمّها الى ألبانيا.

لكن العلاقات بين الدولتين توترّت أكثر في حزيران الحالي الى درجة غير مسبوقة. ففي بداية الشهر شارك رئيس الحزب الاشتراكي الألباني، رئيس الحكومة إدي راما في مؤتمر حزب التشام، وقال في كلمته التي دوت في كل أرجاء ألبانيا «إن حلّ مشكلة التشام هي مسألة وقت»، خصوصاً انه قالها عشية زيارة وزير الخارجية الألباني الى اليونان.

وكمــا كــــان متوقعاً فقد جاء رد الخارجية اليونانيــــة عاصفاً في اليوم التالي (5/6/2016) حيث اعتبرت أن ما قاله رئيس الحكـــومة الألبانية «يصب الزيت على النار» بيــن الدولتين «التي تبدو العلاقات بينهما في الظاهر جيدة ولكن في الداخل تخفي التوتر والتراكمات الموروثة منذ سنوات».

ومع هذا التصعيد وصل في اليوم التالي (6/6/2016) وزير الخارجية اليوناني نيكوس كوتزياس في زيارة مبرمجة قبل التوتر الجديد في العلاقات، إلا أن الزيارة أفصحت عن تباعد المواقف بين الدولتين. ففي المؤتمر الصحافي المشترك قال الوزير اليوناني إن ما حدث في 1944 كان مع «متعاونين» مع الاحتلال الإيطالي- الألماني وإن «آخرين» هاجروا من تلقاء أنفسهم الى ألبانيا، في حين ان الرواية الألبانية الموثقة تتحدث عن قتل 2771 من الرجال والنساء في مجازر جماعية مع حالات اغتصاب وتشويه لترويع السكان ودفعهم الى الهجرة. وردّ وزير الخارجية الألباني ديتمير بوشاتي بالقول «إن ألبانيا ليس لها مطامع توسعية وأن كل ما تريده هو إحقاق الحق».

مع هكذا تصريحات بدا أن الحوار الديبلوماسي أقرب الى «حوار طرشان» لأن كبار السن من التشام لايزالون يمتلكون مفاتيح بيوتهم ويستعدون لرفع قضيتهم الى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية في ستراسبورغ للمطالبة بحق العودة واسترداد أملاكهم التي استولت عليها الدولة باعتبارها «أملاك غائبين»، بخاصة أن السلطات اليونانية على الحدود ترفض دخول أي ألباني يرد في جواز سفره أنه من مواليد تشامريا!