رضوان السيد

يسود انطباعٌ لدى المشاركين والمتابعين والمراقبين، أنّ الأزمات العربية الطاحنة صارت «نمطًا»، وقد اقتضى ذلك تنميط المقاربات أو المتابعات. وعلى سبيل المثال؛ فإنّ المشهد السوري بحسب هذا التنميط مرَّ بمراحل وهي: نشوب الثورة، ثم التدخل الإيراني، ثم التدخل «الداعشي» ثم التدخل الروسي. ونظرًا للتداخل، بمعنى أن المرحلة الثانية لا تُنهي الأولى، وكذلك الثالثة لا تُنهي الثانية، بل تتداخل وتتراكب وتتعقد؛ فإنّ الحلَّ بات مستبعَدًا، وصار من الضروري الاهتمام بالشؤون الإنسانية: لمن هم تحت الحصار، وللاجئين. أمّا المفاوضات السياسية الموازية (والمتوقفة الآن)؛ فإنه لا طائل من ورائها. ووقْفُ النار والدخول في المرحلة الانتقالية رهنٌ بالتوافق الأميركي - الروسي، وهو توافُقٌ لا يمضي قُدُمًا، لأن حلفاء الطرفين مختلفون جدًا: فالأسد والإيرانيون (حلفاء روسيا) لا يريدون حلاً سياسيًا. وحلفاء الولايات المتحدة مثل تركيا والسعودية يريدون حلاً انتقاليًا يُزيلُ الأسد ولا يمكن أن يقبله الآخرون. يقول هذا الطرف: بعد نصف مليون قتيل، وثمانية ملايين مهجَّر أو أكثر، لا يمكن تصوُّرُ بقاء الأسد.

وما يقال عن سوريا يقال عن العراق، الذي دخل عام 2014 في مرحلةٍ خطيرة، حيث احتلّ «داعش» ثلث أراضي الدولة العراقية المالكية/ الإيرانية. وبالعودة إلى مصطلح المراحل؛ فقد آذن ظهور «داعش» بالتخلّي الإيراني القهري عن المالكي. ولذا فنحن في العراق في مرحلة ما بعد المالكي من جهة، ومرحلة «داعش» من جهةٍ أخرى. بيد أن المالكي و«داعش» لن يذهبا معًا، بل تبدو إيران مصممةً على الاحتفاظ بالاثنين: المالكي والعبادي. وهذا يعني استبعاد المكونات الأخرى وتهميشها ما بين السنة والأكراد. ولا أمل في الإصلاح من جانب الجماهير الغامضة، ومن جانب مقتدى الصدر. فكلما صارت هبّة شعبية من أجل الخدمات، يرتكب «داعش» عمليات طائفية، ويرتكب الحشد الشعبي جرائم أخرى، فيشتعل النزاع الشيعي/ السني من جديد، والذي يختبئُ تحت غطائه كل الفاسدين بداعي الغيرة على المذهب والطائفة!

أما في ليبيا فقد دخلت البلاد مرحلة حكومة الوفاق والمجلس الرئاسي. لكنّ ذلك لم يقرّب الحلّ، فقد استمر الانقسام: غرب/ شرق. ويستتر الإسلاميون وغيرهم بحكومة الوفاق، ولا يريد كثير من الليبيين الدخولَ فيها لهذا السبب بالذات.
فإذا وصلنا لليمن، نجد أننا دخلنا مرحلة الحديث السياسي بالكويت بعد جنيف ومسقط. ودخلنا مرحلة وقف إطلاق النار الذي لم يتوقف. وهكذا لا تقدم في هذا أو ذاك. وتتخذ المراوحة سِمات وعلائم الحرب الأهلية المستمرة، التي يمكن أن ينجو منها الجنوب، ويغرق فيها الشمال!

فالمقصود بالنمط، الأشكال المختلفة والمتقاربة للحروب الأهلية، وانخراط الجميع فيها عربًا وعجمًا، واليأس من الحلول السلمية، وقصر الاهتمام على اللاجئين والشؤون الإنسانية؛ دونما نجاحٍ كبيرٍ في ذلك أيضًا!

ماذا يفيدُ هذا التنميط، وهل هو صحيحٌ وحقيقي؟ التنميط بغضّ النظر عن صحته مفيدٌ في نظر المراقين لعدة أمور؛ أولها أنّ هذا المخاض على هوله تحدَّد في هذه البلدان الأربعة، والمطلوب محاصرةُ النار فيها حتى لا تمتد إلى بلدانٍ أخرى مثل تونس ولبنان وغيرهما. وثانيها أنّ الصراعات الداخلية المتوازية مع تدخلات خارجية، أحدثت حالةً من التوازُن بحيث لا يشعر أي طرفٍ من خارج تلك البؤَر بالخسارة الفادحة. وفي الوقت نفسه لا يستطيع أي طرفٍ ادعاء الانتصار. وثالثها أنه استحدثت أُطُر للشراكة (إذا صحَّ التعبير) في حلّ تلك الأزمات، يشارك فيها الأطراف الداخليون والخارجيون الرئيسيون. ولأنه لا يمكن الاتفاق على حلولٍ جذرية، وسط تعدد الأطراف وتناقضات المصالح، فلا أقل من محاولة التوصل إلى «تبريد النزاع»، وتقليل القتل والتهجير. وهو أمرٌ أمكن بلوغه بليبيا واليمن، ولم يمكن بلوغه في العراق وسوريا.

الحالةُ (النمطية) الحاضرةُ إذن هي كما يبدو لصالح الأطراف الخارجية، والتي تريد استمرار النزاع إن لم تستطع حتى الآن أن تحصد منه الحصاد المرجوّ، وأعني بذلك إيران وروسيا وتركيا وإسرائيل. أما في ليبيا فإنّ الحالة الحاضرة علتها الصراع القبلي فيها، وعدم اهتمام المصريين والأوروبيين بالتدخل، باستثناء ما يحصل أخيرًا. وهو في الواقع نُصرةٌ لطرفٍ على طرف.

إنّ المتضررين الحقيقيين من هذا المشهد الكارثي هم سكان تلك البلدان، وهم (وبعكس لبنان) ما استطاعوا ولن يستطيعوا اعتبار حروبهم الأهلية الناشبة نمطًا يمكن التصالُحُ معه أو العيش فيه. والأمر نفسه يمكن قوله عن العرب بشكلٍ عامٍ، فهم خسروا وسيخسرون الملايين من السكان، والهائل من الثروات. وهذا فضلاً عن إمكان تغير الخرائط، وتخليد مشكلات إلى الأبد! في لبنان، حصل في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي انقسامٌ ديموغرافي: المسيحيون في جانب، والمسلمون في جانبٍ آخر. وكان يجري أحيانًا تقاصفٌ بالمدفعية لا يوقع خسائر كبيرة. بينما الأحداث المؤسية كانت تجري داخل كل منطقة. وقد كان سبب نجاح الحل السلمي في لبنان أخيرًا هو عجز المسيحيين عن إيجاد إدارة مشتركة بين أحزابهم السياسية والعسكرية. ولذا فقد لجأ الفرقاء الأضعف من المسيحيين إلى السعودية وسوريا والجامعة العربية، التي تدخلت وفرضت دستور الطائف وقوات السلام (أو الردع!) العربية السورية، لإنفاذ الاتفاق.

وما حصل في لبنان وأدَّى إلى حلٍ (على دَخَن) يمكن أن يحصل في ليبيا، لكنه صعب التصور في البلدان العربية الثلاثة الأخرى. ففي ليبيا لن تستطيع (مصراتة) فرض سيطرتها في كل الأنحاء. ولذلك فقد قبلوا بحكومة الوفاق التي لن تثبُت إذا لم تبرهن على حياديتها بين القبائل. إنّ هذا الأُفق ممكنٌ وقد يكون متاحًا تحت وطأة وضغوط «داعش» والمتطرفين على الجهتين. وعلى العرب جميعًا العمل في هذا الاتجاه الواعد.

أما سوريا والعراق، ورغم وجود فريقين بل عدة فرقاء في كل جهة؛ فإنّ ذلك لا يبدو ممكنًا حتى الآن. فالنظام السوري نظام إبادات وهو يريد (ومن ورائه الإيرانيون) الغلبة بأي ثمن. ولذلك لن يسمح بانشقاقات في مناطقه، ولن يسلِّم للمعارضة السياسية بأي شيء. ويطمح النظام العراقي «المتأيرن» إلى أن يكونَ أبديًا ولو من طريق التهجير والإبادة. أما في المناطق الشيعية بالعراق، وحيث تظهر معارضة كبرى، فقد جرى إخمادها حتى الآن بإنشاب قتالٍ مع السنة!
ويحاول الإيرانيون إحلال هذا «النمط» من الصراع في اليمن. لكنهم لم ينجحوا تمامًا حتى الآن. وذلك بسبب مساعدة السعودية والإمارات للحكومة الشرعية. وينبغي أن تستمر هذه المساعدة، لكي ييأس الانقلابيون من الغلبة والانقسام، فيقبلون التفاوض حقًا!

النمط السائد في مقاربة الأزمات مُرْضٍ للقوى الإقليمية والدولية إلى حدٍ ما. لكنه مُهْلِكٌ للعرب في بلدان الاضطراب وخارجها. ولذا لا بد من الخروج منه. ويا للعرب!