بأغلبية تعادل 4٪ حسم أكثر من 17 مليونا و400 ألف مصوّت بريطاني قرار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي (مقابل 16 مليونا وقرابة 120 ألفا من الراغبين بالبقاء) وانعكس ذلك سياسياً باستقالة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون وبقرار رئيسة وزراء اسكتلندا نيكولا ستورغن بدء إجراءات الانفصال عن المملكة المتحدة.

وبذلك يكشف هذا الاستفتاء عن بلد مشطور عموديّا وأفقيّاً، صوّت فيه الاسكتلنديون والإيرلنديون للبقاء، فيما صوّت الإنكليز (باستثناء لندن) والويلزيون للخروج. بلد يختلف على مستقبله كبار السنّ وأهل الأرياف مع الشباب وسكان المدن، والبيض الأنكلوساكسون مع الأقليّات الكثيرة العرقية والدينية التي تعجّ بها المملكة، والجميع مع أوروبا والعالم.

الخضّة التي خلقها القرار أدّت على المستوى الاقتصادي إلى انخفاض الجنيه الإسترليني والأسهم البريطانية والعالمية بشكل قياسيّ وتراجعت أسعار النفط، كما أن من المتوقع، لاحقاً، انعكاس ذلك على أسعار العقارات وحركة السياحة والعمالة وهي علامات، يقول اقتصاديون، إنها ستدخل الاقتصاد البريطاني، في الفترة المقبلة، في المجهول.

سيكون قرار الانفصال البريطاني علامة بارزة على حقبة داخليّة مضطربة، من ضمن حلقاتها المتوقعة مفاوضات لندن الطويلة والمعقّدة مع الاتحاد الأوروبي، بالتوازي مع إجراءات استفتاء جديد لانفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة خلال سنتين ونصف من الآن، وتصعيد اسبانيا مطالباتها بجبل طارق، وانتخابات جديدة في حزب المحافظين (وربما حزب العمال).

على المستوى الغربيّ، يمكننا إضافة احتمال انتخاب دونالد ترامب (الذي زار اسكتلندا صباح نتيجة الاستفتاء) رئيساً لأمريكا، وضغط أحزاب اليمين العنصري الأوروبي للقيام باستفتاءات شبيهة لانفصال بلدانها عن الاتحاد الأوروبي كما في فرنسا وهولندا.

التشابه بين شخصيتي بوريس جونسون (أهم قادة الحملة البريطانية للانفصال) وترامب، وكذلك بعض قادة اليمين المتشدد الأوروبيين، لا يتعلّق بالخروج على المؤسسة السياسية التقليدية فحسب، بل يبيّن اتجاهاً سياسياً غربيّاً متصاعداً تتجادل فيه الشعبوية السياسية القائمة على الكثير من الاستعراض والسخرية الكلبيّة والسطحية السياسية مع رهاب الأجانب والمهاجرين واللاجئين والشعوب الأخرى وتملّق المشاعر العنصرية للجمهور العامّ والتخلّي عن الالتزامات الإنسانية نحو العالم.

لقد تركّزت حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي على مواضيع الهجرة والسيادة وتكاليف البقاء في الاتحاد الأوروبي، وفي هذه المسائل الثلاث ارتفع جبل من الأكاذيب، فالهجرة لن تتوقّف لأن الاقتصاد البريطاني بحاجة إليها، ولأن الاتفاقات المقبلة مع الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن توقّع من دون ضمان الحفاظ على حرية حركة البشر والسلع والأموال. السيادة البريطانية لم تكن منقوصة لأنها، من ناحية، كان لها عدد كبير من النواب داخل البرلمان الأوروبي يوازي عدد نواب فرنسا (73 مقعداً للبريطانيين مقابل 74 لفرنسا)، كانوا يساهمون في إصدار التشريعات الموحّدة، ومن ناحية أخرى، فقد كانت الحكومة البريطانية تقوم مثل كل دولة في الاتحاد بسنّ التشريعات التي تخصها وهو أمر لا يتعارض مع القوانين التي ساهمت مثل باقي الدول الفاعلة في إصدارها من بروكسل، أما الأموال التي كانت تدفعها للحكومة الأوروبية فكانت تعود بالفائدة على بريطانيا من خلال أشكال كثيرة من الدعم، كما أنها تساهم في رفع مستوى رفاهية الشعوب الأوروبية الأخرى مما يحفظ السلام الاجتماعي والأمني كبديل عن الحروب العالمية التي دمّرت القارّة مرتين في قرن واحد. يضاف إلى ذلك أن البريطانيين سيضطرون لدفع المليارات سنوياً على حقوق جمركية كانت مؤمنة لهم سابقا ضمن الاتحاد.

من المتوقع على الصعيد العربيّ أن تكون هناك تأثيرات مهمة للقرار البريطاني وما يستتبعه من اضطراب سياسي واقتصادي في العالم، فعلى مستوى الأعمال ستصبح بريطانيا أقلّ جاذبيّة مع نزوح متوقع لبعض كبار المصارف والصناديق الاستثمارية نحو القارّة الأوروبية، وكذلك مع تراجع السياحة البريطانية إلى بعض البلدان العربية، كما أن الاتجاه العامّ نحو اليمين المتشدّد سينعكس انحيازاً نحو إسرائيل وبعض الأنظمة العربية المستبدة، وستتركز الأجندة على التحالف مع روسيا على ما يسمى «محاربة الإرهاب»، وهو ما سيقذف بالمنطقة العربية في السنوات المقبلة نحو المزيد من الكوارث.

المواطنون العرب والمسلمون المقيمون في بريطانيا بدورهم سيكونون جزءاً مفضلا للاستهداف من قبل اليمين الصاعد الكاره للأجانب، بتحميلهم مسؤولية التطرّف والشكّ فيهم كحواضن ممكنة للإرهاب، وهو ما سيدفع عمليّاً البعض منهم للتطرّف فعلاً أو للتفتيش عن بلدان أخرى للعيش فيها.

لقد قررت بريطانيا الانفصال ولكنّ الملايين من المصوّتين، مدفوعين بحملة تضليل هائلة، لم يتفكّروا بكلّ تبعات هذا القرار، الذي يعطيهم إحساساً زائفاً بسيادة لم تكن منقوصة حقّا، ويعدهم كذباً بسحب أموالهم من أوروبا لصرفها على العناية الصحيّة أو التربية، وهو أمر تراجع عنه قادة حملة الانفصال بسرعة.

الحقيقة الوحيدة هي أن قرار الانفصال سيضع البلد كله على حافة أحداث لا يمكن التحكّم بنتائجها النهائية.