‏ حازم الرفاعي

دخلت العلاقات المصرية البريطانية شتاء يبدو أنه سيكون طويلاً، على إثر هبة الشعب المصرى ضد تصورات قوى دولية عن حتمية قبوله بحكم جماعة الاخوان. ويبدو أن ثلوج هذا الشتاء لن تذوب فى لندن الباردة، إلا إذا حددنا كيفية التعامل مع الأوهام المتبادلة بين البلدين. فبريطانيا ليست دولة أوروبية عادية فهى طباخ الأوهام الشرقية رغم أن المصريين يتوهمون أنها لا تتعدى مجرد «نائب الفاعل» للسياسة الأمريكية. فحقيقة الأمر أن شمس بريطانيا لم تغرب أبداً فالعملاق الأمريكى سليل عرقى وسياسى ومالى ولغوى مباشر لشعوب الجزر البريطانية ومؤسساتها المختلفة فالعلاقات البريطانية الأمريكية إذن علاقة شراكة عميقة. فمؤسسات صنع التأثير السياسى والاستراتيجى للدولتين تعمل معا وبشكل تلقائى منذ عقود طويلة. شراكة تتسع من صناعة الإعلام، لمنظومة المجتمع الدولى، لحلف الإطلنطى، لصناعة المال والسلاح التى تحيا بهبات أمريكية أثناء الحروب والأزمات العظام.&

وهذا التاريخ الممتد يتجسد فى مواقف الساسة البريطانيين، فتراهم يخوضون المعارك الأمريكية بحماس الشريك الأشد إخلاصاً. فها هو تشرشل ينتصر عندما يؤكد وحدة الدورة الدموية البريطانية الأمريكية وهاهى ثاتشر تعلن أنك لا يمكن أن تكون رأسمالياً جيداً إذا خالفت الولايات المتحدة فتلاعب جورباتشوف كفتى غر وتزين له الأوهام فى معركة صليبية ضد السوفيت، وها هو تونى بلير ومعه جنوب شرق بريطانيا بمصانعها وفابركاتها يتحمسون لغزو العراق حماسا يجعلهم يدوسون إرادة المجتمع البريطانى. والخروج على المحور البريطانى الأمريكى له تداعياته. فها هو إيدن يسقط بعد مغامرة السويس لأنه لم يشرك أمريكا بقدر كاف، وهاهو رولد ويلسون يتعرض لحملة سياسية شرسة لأنه رفض مشاركة الولايات المتحدة فى حرب فيتنام.

&

ولربما يجب أن ننظر للتاريخ والخرائط فى الشرق حتى نعرف ضالة إرادة شعوب المنطقة فى ايجاد واقعها. فبريطانيا مثلا كانت المخطط لما عرف باسم (ثورة) الشريف حسين والتى تم التسويق لها باسم (الثورة العربية الكبرى). صنعت بريطانيا مسرحها وشخوصها فهاهم رجالها وجواسيسها العظام يظهرون على المسرح بالأزياء والديكور الضرورى. (فلورنس العرب) يرتدى العقال والجلباب فى الحجاز . (وجرترود بل) لها صور فى خيمتها وسط نخيل البصرة. والأمر فى الواقع لم يكن لا ثورة ولا يحزنون. ترى ماذا استشعرت الدوائر السياسية فى بريطانيا عندما تحرك الشعب المصرى فى الثلاثين من يونيو ؟ ماذا استشعر المخرج والممثلون فى عواصم العالم عندما اقتحم المصريون خشبة المسرح ؟ مسرح كان من المفترض أن تظلله رايات الاخوان المسلمين. حتى تستكمل مصر فيه الدوائر السنية فى مواجهة القوس الشيعى وفى القلب منه إيران.&

ولكن لبريطانيا وجوها أخرى تتجاوز الاستعمار. فالصراع الاجتماعى فى بريطانيا أفرز مجتمعا من اكثر مجتمعات العالم علما وثقافة ومعرفة. فالشعب البريطانى اليوم فى معظمه هو سليل الأسر التى كافحت من أجل الحياة، وعرفت الفقر والاستغلال وبشاعة الحروب. وينتقل تراث هذه المعاناة لعشرات الملايين من أبناء بريطانيا اليوم. إنهم أبناء وبنات عمال المناجم وعمال مصانع القطن وسائقى القطارات وأحفاد الجنود الذين ماتوا فى ظلال الوحشية البشعة للحرب العالمية الأولى فى خنادقها الغارقة فى الضباب ومياه الأمطار. هذا الشعب هو ذاته الذى يتعقب النابهين من شبابه وفتياته الحقيقة والمعرفة، وتراهم يدققون فى الصحف يتعقبون أخبار دول بعيدة من فيتنام للارجنتين للكونغو واليابان. شعب بريطانيا يعرف أن من يدفع الثمن فى الحروب هم النساء والرجال والأطفال والفقراء والكادحين. البرلمان البريطانى أيضاً قوة فكرية وتشريعية رائدة، يتجاوز تأثيره بريطانيا ذاتها لكل الشعوب التى ارتبطت بالتاريخ الطويل للجزر البريطانية. فبريطانيا أيضا مهد لمفكرين ومصلحين اجتماعيين ورواد اشتراكيين وقادة ليبراليين عظام.&

الأوهام المصرية عن بريطانيا تراها أحادية الجانب، فهى لا تسعى إلا لايجاد جسور من رجال الأعمال وسليلى الامبراطورية والباحثين عن العمولات فى تجارة النفط والسلاح. فمنذ أيام تم اغتيال برلمانية بريطانية هى (جو كوكس) كانت مع حقوق السوريين والفلسطينيين. فهل ظهر أمثالها أبداً على قوائم السفارة المصرية فى لندن أو مكتبها الثقافى ؟ أو هل دعى الى مصر قائد حزب العمال الحالى جيرمى كوربن ذو المعرفة الواسعة بالشرق وأحد الأصوات المهمة المنددة بالحرب ؟ أليس بين هؤلاء من يمكن أن يكون حليفاً حقيقياً للشعب المصرى والمرأة المصرية الساعية للتحرر بعد انفكاك أسرها فى 30 يونيو ؟ ولربما يبدو مدهشا غياب أى اهتمام دبلوماسى مصرى بأسكتلندا مثلا التى خاضت غمار استفتاء للاستقلال حديثاً أو الوعى بخطورة وأهمية الخلافات البريطانية بشأن السوق الأوروبية بالنسبة للعالم ولانجلترا ذاتها دون بقية مكونات المملكة المتحدة.&

كانت زيارة الرئيس لبريطانيا عملا جريئا عجزت البعثة الدبلوماسية المصرية عن استشراف مخاطره أو التعامل خلاله باصرار يعبر عن إدارة سياسية جديدة، تحظى بدعم وثقة ملايين المصريين. وفشلت فى فرض برنامج يعكس هذا، بل بالعكس تصرفت بدونية «من على رأسه بطحة» !! فبريطانيا تتعامل اليوم مع مصر كدولة متمردة ولكنه من غير المقبول أن يتم التعامل معها كدولة صغيرة..&

الوصول للنخب فى بريطانيا والغرب يحتم أن تكون المكاتب الثقافية المصرية بؤرة لنشاط ثقافى رفيع المستوى واسع الأفق وأن تكون الجسر الحقيقى للمجتمعات الغربية. تلك المكاتب والسفارات يجب أن تتجاوز المورثين وأبناء (صاحب المحل) الى مثقفين ورجال دولة حقيقيين. فحقيقة الأمر هى أن الارتباك الاستراتيجى الأمريكى البريطانى فى الشرق سيستمر طالما استمر إخفاق المشروع الدموى المستحيل فى بلاد الشام، ولمصر إمكانيات كبيرة فى تبديد الأوهام إذا تبنت سياسة خارجية نشيطة تستند الى تاريخها

&