&الياس حرفوش

لم يكن الزواج البريطاني الأوروبي زواجاً ناجحاً منذ البداية. العريس كان ينتظر شيئاً والعروس شيئاً آخر. هي كانت تسعى وراء المصلحة الاقتصادية والأموال التي يمكن أن تأتي الى محفظتها من هذه السوق التجارية الواسعة، فيما العريس كان يأمل بأن تؤدي هذه التجربة من المساكنة الطويلة، مع الوقت ومع تقدم العمر، الى اقتناع العروس بفضائل البقاء في العش الزوجي، بصرف النظر عن الظروف الاقتصادية الصعبة.

رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر شرح قرار الانفصال البريطاني عن أوروبا بطريقة يمكن أن يفهمها أولئك البسطاء الذين ذهبوا الى الصناديق ليرجحوا كفة الخروج من الاتحاد. قال لهم: لم تكن بيننا علاقة غرام قوية على كل حال. ولذلك فإن هذا الطلاق لن يكون طلاقاً ودياً من دون مشاكل.

أوروبا (العريس في هذه الحال) استثمرت كل ما يمكن لإقناع بريطانيا بتجاوز غرائزها الانعزالية، النتاجة في معظمها عن سبب جغرافي يعود الى الإقامة في جزيرة معزولة، وعن سبب تاريخي يتعلق باختلاف التجربة بين بريطانيا والآباء الأوائل للمشروع الأوروبي، وعلى الأخص ألمانيا وفرنسا، الآتيتين من تجربة مريرة بعد الحرب العالمية الثانية. صاحب فكرة المشروع الأوروبي جان مونيه تنبّه الى ذلك منذ البداية وكان يرى أن بريطانيا ليست في حاجة كي تخلص نفسها من الأرواح الشريرة التي تلوح لها عبر نوافذ التاريخ، كما هي الحال بالنسبة الى فرنسا وألمانيا. اما ذلك الزعيم الكبير شارل ديغول، صاحب النظرة الثاقبة والرؤية البعيدة الأفق، فكان أول من صوت بالفيتو مرتين ضد الموافقة على طلب بريطانيا دخول المجموعة الاقتصادية الأوروبية، كما كانت يومذاك، وذلك في عامي 1963 و1967.

قدّم الاتحاد الأوروبي كل ما يمكن تقديمه من تنازلات لإقناع البريطانيين بالبقاء. وافق على احتفاظ بريطانيا بعملتها، وعلى حقها في مراقبة حدودها، من خلال إعفائها من الانضمام الى اتفاقية شينغن، وأخيراً على منحها الحق في فرض شروط صارمة على الأوروبيين القادمين الى الإقامة والعمل، قبل أن تتاح لهم فرصة الإفادة من التأمينات والضمانات الاجتماعية. لكن كل ذلك لم يفلح في الإقناع، وظلّ عامل الحذر من كل ما هو قادم الى بريطانيا عبر المانش أو القنال الإنكليزي، هو العامل السائد.

أصعب ما في هذا الطلاق سيكون مصير الأولاد. كل الذين نشأوا في ظل هذه العلاقة التي تجاوزت الآن أربعة عقود صوتوا الى جانب البقاء في الاتحاد الأوروبي، وهؤلاء هم الذين سيدفعون الآن ثمن الطلاق الصعب من مستقبلهم ومستقبل أولادهم من بعدهم، مثلما يحصل في معظم الزيجات الفاشلة. غير أن طبيعة الاستفتاءات وطريقة عمل التصويت الديموقراطي لا تتيحان التمييز بين شبان وشيوخ، كما لا تمنحان أفضلية لأصوات المتعلمين والخبراء وأصحاب الرؤية البعيدة الأفق، على أصوات الأميين والرعاع، وأولئك الذين تتحكم غرائزهم بعقولهم.

أصعب من مصير الأولاد ومستقبلهم سيكون مصير البيت الزوجي نفسه الذي بات مهدداً بالانهيار فوق رؤوس ساكنيه. في بريطانيا، صار احتمال انفصال اسكتلندا احتمالاً أكثر واقعية الآن، بعد أن صوتت اكثرية أبناء المقاطعة الى جانب البقاء في الاتحاد، ولن تقبل أن يُفرض عليها قرار الانفصال بسبب تصويت اكثرية المقيمين في انكلترا الى جانبه.

أما حال البيت الأوروبي فليست أفضل من ذلك بكثير، وإن يكن انهيار هذا البيت ليس وشيكاً. فمطالب الانفصال من جانب الأحزاب اليمينية والشعبوية في أوروبا لا تقل عن تلك التي فرضت نفسها على حكومة ديفيد كامرون وأرغمته على الدعوة الى الاستفتاء. وسواء في فرنسا (الجبهة الوطنية) أو في هولندا والنمسا وسلوفاكيا، وباسم الديموقراطية، التي ترتكب تحت مظلتها كل الآثام، يطالب العنصريون من قادة هذه الاحزاب زعماء دولهم بالدعوة الى استفتاءات شبيهة بالاستفتاء الذي أجري في بريطانيا.

لهذا يستعجل قادة الاتحاد الأوروبي إجراء مراسم الطلاق البريطاني بسرعة. فهم يريدون أن يرى الجميع فداحة الثمن الذي ستدفعه بريطانيا، سياسياً واقتصادياً ومالياً، بعد خروجها من الاتحاد، كي يكون ذلك درساً يردع الشعوب الأخرى عن الإقدام على طلاق آخر.