&عبدالله خليفة الشايجي

لم يدع أحد أن الديمقراطية وقرارات الشعوب في الأنظمة الديمقراطية مرْضية ومريحة دائماً. وكما نرى من خلال استفتاء بريطانيا، فإن هناك نتائج وارتدادات زلزالية عالمية التأثير. المادة 50 من اتفاقية لشبونة تنظم خروج بريطانيا من الاتحاد، وهي البلد الذي لم يؤمن كثيراً بعضويته خلال 43 عاماً، ورفض الانضمام لمنطقة اليورو ولاتفاقية شنغن حول الحدود المفتوحة.

مقامرة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون بإجراء الاستفتاء، عكست الانقسام الحاد. وبنسبة مشاركة غير مسبوقة في تاريخ بريطانيا (72٪ من الناخبين)، وبفارق 1.26 مليون صوت (من أصل 33.5 مليون ناخب).. أعلنت بريطانيا طلاقها من الاتحاد الأوروبي، مما يعكس حالة الانقسام وفقدان الهوية والصراع الداخلي لشعب المملكة المتحدة وتضارب نظرته حول الانتماء الأوروبي، مقابل بريطانيته وانغلاقه وتقوقعه ورفضه لتدخلات البيروقراطية الأوروبية في بروكسل وللانفتاح على المهاجرين واستقبال اللاجئين. بفارق ضئيل تعود المملكة المتحدة جزيرةً مغلقةً، فتودع أوروبا المصدومة التي تطالبها بتسريع رحيلها وليس الانتظار.

والخشية اليوم هي من أن يتسبب هذا الخروج في التسريع بتفكك المملكة المتحدة نفسها، فتنفصل إسكتلندا وإيرلندا الشمالية اللتان صوت ناخبوهما للبقاء في الاتحاد الأوروبي، خلافاً لانجلترا وويلز اللتين صوتتا للخروج.

وهناك خشية أيضاً من تفكك دول ذات تركيبات عرقية ومطالب انفصالية، على رأسها إسبانيا وبلجيكا. وأخطر نتيجة لخروج بريطانيا هي نهاية الحلم الأوروبي. ورغم تطمينات القادة الأوروبيين فإن أوروبا في خطر.

لم تكن صدمة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي لتصبح بهذا الحجم لو كانت دولة أخرى من دول الاتحاد قررت مغادرته. فبريطانيا أكثر من عضو! إنها ثقافة وحضارة ولغة وخبرة.. وفوق هذا هي أكبر مركز اقتصادي أوروبي، وثاني أكبر اقتصاد في أوروبا بعد ألمانيا التي ستتحمل المزيد من الأعباء السياسية والمالية بغياب بريطانيا. وبريطانيا عضو دائم في مجلس الأمن، وضمن الخمسة الكبار، وصاحبة خامس أكبر اقتصاد في العالم، ودولة نووية ذات دور رئيس في الأمن العالمي.. لذلك يشكل خروجها من الاتحاد الأوروبي صدمة ذات تداعيات وارتدادات زلزالية.

ومن التداعيات الأولية خسارة أسواق الأسهم في العالم 2 تريليون دولار، وانخفاض الجنيه الإسترليني 10% لأدنى مستوى له خلال 35 عاماً، وانخفاض النفط بنسبة 5%، وتخفيض وكالة موديز رؤيتها المستقبلة لبريطانيا من مستقرة إلى سلبية، وخشية المستثمرين من تراجع العوائد على استثماراتهم، مع توقعات بتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي.

الخروج يشكل انتصاراً لمنطق التقوقع والانغلاق وعدم اقتناع بريطانيا بأوروبا وتراجع روح الوحدة وانتصار الانعزال ورفض المهاجرين واللاجئين وبيروقراطية بروكسل!

لذلك تبقى بريطانيا جزيرة كما هي جغرافياً. والأخطر هو زيادة حضور ونفوذ اليمين البريطاني والأوروبي المعادي للمهاجرين والمسلمين، ما يعني تراجع الثقة ببريطانيا، بما لذلك من انعكاسات سلبية على الجاليات العربية والإسلامية.

لقد سارع كاميرون ليعلن في خطاب الهزيمة أنه سيستقيل وأن حزبه سينتخب رئيسا جديدا سيتفاوض على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي خلال 3 أشهر، والتفاوض برئيس وزراء جديد للخروج كلياً خلال عامين. أما أكبر المنتصرين فهم قادة معسكر الانفصال. وكان لافتاً أن يتحالف اليمين البريطاني مكرراً خطاب ترامب الذي يتحدث عن استعادة الدولة مجدداً وتمكينها، بل عن استعادة استقلالها وسيادتها كما يقول نايجل فاراج وبوريس جونسون اللذين قادا معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي.

ومن تداعيات خروج بريطانيا أن أحداً بعد اليوم لن يعيّر مجلس التعاون الخليجي أو أي تجمع إقليمي آخر بعجزه عن الاتحاد والتكامل، مستخدماً مثال الاتحاد الأوروبي كنموذج ناجح وفعال! بل من المفارقة أن هناك عريضة وقع عليها أكثر من 100 ألف من سكان لندن، درة التاج البريطاني،،التي صوتت بـ75% للبقاء، يطالبون فيها عمدة المدينة الجديد، صادق خان، بالاستقلال عن المملكة المتحدة وإعلان لندن دولة وانضمامها للاتحاد الأوروبي، كونها مدينة عالمية وأكبر مركز مالي في أوروبا. كما أن هناك عريضة تجاوزت مليون توقيع لإجراء استفتاء آخر حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.

صدمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بفارق ضئيل، هي درس للشعوب والأنظمة بأن الدول في عصر العولمة عليها إيجاد توازن بين السيادة والمصالح الكبيرة، وأن القرارات يجب أن تكون مدروسة، لأن نتائج الديمقراطية المباشرة والاستفتاءات ليست مرضية ومقبولة للجميع دائماً، لكن عليهم جميعاً تحمل نتائجها.