&يوسف أبا الخيل

لا يمكن لأي إنسان سوي أن يتخيل حجم الألم والحزن والبشاعة وكل ألوان الفظاعة التي قد تخامره عندما يتناهى إلى سمعه أن شابا في مقتبل العمر قد أقدم بنفس راضية على محاولة قتل والده أو والدته وقت فرحة الصائم عند فطره، فما بالك بمن لا يقيم وزنا لفرح فطر والديه، أو أحدهما، فيجعل فرحهما، أو أحدهما، بلقاء ربه أسرع من فرحه بفطره، كما حدث مع الشابين الداعشيين اللذيْن قتلا والدتهما، وحاولا قتل والدهما وأخيهما قبيل إيذان المؤذن بفطر الصائمين!

الوالدان مقدسا الحقوق في كل الديانات، سماويها ووضعيّها، ناهيك عن الإسلام، فما الذي يحدث بيننا اليوم؟ كيف يخرج من بني جلدتنا، ممن قرأ القرآن، وتعايش مع متواتر السنة، من يعد قتل الوالديْن والأقربين قربى إلى الله؟

لقد كدنا، إبان مرحلة (تكفى يا سعد)، أن نفر بديننا من الفتن الداعشية، فنتبع بغنمنا شعف الجبال ومواقع القطر، فجاءنا الدواعش بما لا نظن ولا نتوقع.

لقد قالوا لنا: إن كنتم جزعين مرعوبين من مرحلة (تكفى يا سعد)، فقد جئناكم بمرحلة (تكفى يا وليدي). إن كنتم جزعين أن قتلنا إخوتنا وأعمامنا وأخوالنا وأبناءهم، فنحن اليوم نأتيكم بما لا قبل لكم به، شيء لم تخبره المجتمعات البشرية على مر التاريخ، شيء لم تأت به حتى الوثنيات وأدبيات الملحدين يوما ما. إننا إذ أتيناكم يوما ما بقتل سعد وسعيد لأبناء عمهما وأخوالهما، فنحن نأتيكم اليوم بشباب يزهوون فرحا بقتل والديْهما المسنيْن غيلة، وبأبشع قتلة، معتقدين أنهم يتقربون إلى الله بذلك!

وإذ أوصانا الله تعالى بالصحبة الحسنة للوالديْن المشركين، يعود الدواعش فيتألون عليه تعالى بأنه سيكافئ بالجنة من قتل والديْه، حتى ولو كانا مسلميْن وطاعنيْن في السن!

إن كل تلك الفواجع لتحدث تزامنا مع تفريغنا لتديننا من مضمونه القرآني ذي الوجه الإنساني الرائع، واستبدالنا إياه بتدين قائم على أخبار آحاد مضروبة سندا، وشاذة متنا، وعلى مقولات واجتهادات فقهية، كانت صدى، ولما تزل، لسياقاتها الزمنية والمكانية.

التدين القرآني يوصي ببر الوالدين المشركيْن اللذين لم يكتفيا بشركهما فحسب، بل إنهما لمّا يزالا يجاهدان على أن يدخلا أبناءهما في الشرك،: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا"، كما يوصي بعدم التعرض للوالدين مطلقا، حتى ولو بعبارة (أف)، التي هي من التأفف، بقوله تعالى "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالديْن إحسانا". وهنا ملمح خفي موحٍ، وهو أن الله تعالى قرن حق الوالدين مع حقه تعالى في توحيده، كما جاء بكلمة (الوالديْن) مطلقة، إذ لم يقل تعالى (وبالوالدين المسلميْن إحسانا)، بل بالوالدين مطلقا، على أي نحلة أو ملة كانوا.

إن التدين الصحيح الذي ننشده مبني أيضا على منهج نبوي رائع في التعامل مع الوالديْن غير المسلمين، فما بالك بالمسلميْن؟ فلقد روى الحاكم النيسابوري في (المستدرك) حديث زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لقبر أمه المشركة، وبكائه عند قبرها، والذي رواه بريدة بن الحصيب الأسلمي بقوله: "زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه في ألف مقنع، فلم يُر باكيا أكثر من يومئذ". كما روى أيضا حديث أبي هريرة، قال: "زار رسول الله صلى الله عليه وسلم الله قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: استأذنت ربي أن أزور قبرها فأذن لي".

لقد استبدلنا هذا التدين القرآني الرائع بتدين قائم على استدعاء أخبار آحاد ضعيفة سندا وشاذة متنا، تفيد مثلا بأن صحابيا قتل والده، وآخر هدده بالقتل، ولم نكتف بذلك، بل لما نزل نحتفي بروايات فقيه تجيز للولد قتل والده المشرك، في تحد صريح لأمر القرآن الكريم الذي يأمر بالصحبة الحسنة للوالدين المشركيْن اللذيْن يلحان على أبنائهما لكي يشركوا بالله! إلا إذا كان ذلك الفقيه يرى أن قتل الولد لوالده المشرك من الصحبة الحسنة!

وفي شأن الجهاد الذي تتذرع به الجماعات الإرهابية اليوم، والذي يقال إن الشابين قتلا والدتهما لمّا منعتهما من السفر إلى سورية لـ"الجهاد"، نجد أن القرآن الكريم حصره بجهاد دفع الصائل، أي المعتدي على الأوطان والحرمات: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين". أما غير المعتدين فهم أولى أن يُبَرَّ بهم ويقسط إليهم:" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم".

ويدعم هذا التوجه القرآني في حصر القتال بمن اعتدى على البيضة فقط، قوله تعالى في آية أخرى:" واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم"، فَعِلَّة قتالكم لهم هنا هو إخراجهم لكم من دياركم.

ولا عبرة بمن يحتج بالنصوص ذات الحكم المطلق، والتي يوحي ظاهرها بالأمر بجهاد غير المسلمين بسبب كفرهم فحسب، ذلك أن المطلق، وفقا للأصوليين، يجب أن يحمل على المقيد، لأن النص المطلق الحكم ليس فيه بيان، بينما يحتوي المقيد على بيان، ولذا وجب حمل المطلق الذي لا يحمل بيانا على المقيد الذي يحمل البيان.

ويتأكد هذا الأمر عندما يتعلق بمسألة خطيرة للغاية، هي مسألة الاعتداء على الدول والمجتمعات المستقلة، التي حرم القانون الدولي على الدول كلها التدخل في شأن بعضها.

يقول الدكتور يوسف زيدان في كتابه (دوامات التدين): "بداهة، فإن معنى الدين يختلف عن مفاهيم التدين، الدين أصل إلهي، والتدين تنوع إنساني، الدين جوهر الاعتقاد، والتدين نتاج الاجتهاد، ومع أن الأديان تدعو إلى القيم العليا التي نادت بها الفلسفة (الحق، الخير، الجمال)، إلا أن أنماط التدين أخذت بناصية الناس إلى نواح متباعدة، ومصائر متناقضة، منها ما يوافق هذا الجوهر الإلهي للدين، ويتسامى بالإنسان إلى سماوات رحيبة، ومنها ما يجعل من الدين وسيلة إلى ما هو نقيض له".

قلت: كثير من أنماط التدين المعاصرة بعيدة كليا عن الجوهر الإلهي للدين الذي نزل رحمة للعالمين، إذ إن بعض تلك الأنماط حرفت الدين بتدينها المخالف، فجعلته نقيضا لما نزل من أجله!

والسؤال الملح اليوم: أين العلماء وطلبة العلم وأهل الاختصاص من بث هذه القراءة المنفتحة السلمية التي تتوسل بالنصوص القرآنية ومتواتر السنة لحماية البيضة، وإدامة السلم الأهلي، وحماية الأوطان والأعراض من عبث العابثين، وكيد الكائدين، ومِن مَن غرر بهم شذاذ الآفاق حتى غدوا خناجر مسمومة موجهة نحو نحور أهلهم ومواطنيهم؟

لماذا هم ساكتون وغير جادين في حسم الموقف الشرعي من هذه المسائل المتعلقة بأغلى ما يبرر به الإنسان من وجوده؟

لماذا نقف في منتصف الطريق ونحن نرى الدواعش والقاعديين وكل أصناف الخوارج الجدد يجندون شبابنا للتهافت على حروب عبثية باسم الجهاد، مستخدمين نصوصا مقدسة وغير مقدسة، ولدينا القدرة على تفكيك أدلتهم، لكن بشيء من الجرأة على تجاوز فقه ماضوي أنتج لسياقاته القديمة؟

أين القائمون على العملية التعليمية، لماذا لا يتقدمون بخطوات جريئة نحو تنقية المناهج الدراسية من كل ما يتعارض مع ما يحث على العلاقات السلمية مع كافة المجتمعات، ومع كون الجهاد الشرعي مرتباطا بالاعتداء على الأوطان، ثم إحياء جهاد النفس والعلم الذي يبني الأوطان والمجتمعات، بدلا من حصره بجهاد البندقية والسيف؟

هل الجميع خائف؟

وخائف ممَ وممن؟

لم يعد في الوقت من بقية، فلقد وصل الحز إلى العظم. نحن اليوم بأشد الحاجة إلى إعادة الوجه المضيء إلى التدين القرآني الممزوج بما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فهل نحن فاعلون قبل أن يقال لنا ذات يوم: ولات حين مندم؟