&السيد يسين&

تتعدد الهويات فى العالم العربى كما قررنا من قبل. فهناك الهوية القبلية مقابل الدولة، وهناك الصراع بين الأعراق ونموذجه الصراع بين الأكراد والعرب وبين العرب والبربر.

ونجد صراعا مذهبيا مستعراً بين الشيعة والسنة. غير أننا لو تأملنا الأحداث الملتهبة فى سوريا- لقلنا ان هناك صراعا داميا بين النظام العلوى السورى وبين باقى الشعب.&

صراع الهويات كان قائما فى كل العصور، غير أنه كان كامنا ولم يسفر عن وجهه إلا فى لحظات تاريخية فارقة. ولذلك صغنا قانونا عاما مفاده اأن الهويات المتصارعة فى العالم العربى انتقلت من حالة التوازن إلى حالة الصراع.&

غير أنه إذا تأملنا ما يحدث فى ليبيا بين القبائل والدولة، وما يحدث فى اليمن بين الحوثيين وأهل السنة، وما يحدث فى سوريا على وجه الخصوص بين النظام العلوى وباقى طوائف الشعب، لأدركنا أن صراع الهويات انتقل من حالة الصراع العنيف إلى حالة التوحش والتى لا سابقة لها فى التاريخ العربى الحديث والمعاصر.&

ونحن هنا لا نتحدث على وجه الخصوص على النموذج الرئيسى لحالة التوحش والتى يمثلها بتنظيم «داعش» بل إننا نتحدث عن الصراعات الدائرة فى سوريا أساسا باعتبارها أصبحت ساحة مكشوفة للصراع بين الدول العظمى وخصوصا بعد التدخل العسكرى لروسيا وبين الدول العربية فى الإقليم.&

ومما يكشف عن حالة التوحش التى أصبحت ممارسة يومية لكل الأطراف المتصارعة فى سوريا لوجدنا عدوانا منهجيا على المدنيين من خلال القصف الجوى والذى لا يمكن -مهما بلغت دقته- أن يميز بين الأهداف العسكرية والمدنية. بل إن النظام العلوى السورى لم يتورع عن إلقاء «البراميل» المتفجرة على المدنيين، وفى المقابل استخدمت فصائل المعارضة كل الأسلحة ضد قوات النظام.&

وترتب على هذه الحرب الهمجية مقتل مئات الألوف من المدنيين وهجرة الملايين من المواطنين إلى الغرب فرارا من الجحيم المشتعل.&

والواقع أن ما يحدث فى سوريا من قبل كل الأطراف ــ بدون استثناء ــ يمثل «جرائم حرب» يعاقب القانون الدولى مرتكبيها. غير أن القانون الدولى غائب عن هذه المحاكمات الضرورية، لأن القوى العظمى التى من المفروض أن تطبق قواعد القانون الدولى هى التى تحرقه جهارا نهارا. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة العظمى ــ هى السّباقة فى هذا المجال، وذلك بغزوها العسكرى غير الشرعى للعراق والذى ترتب عليه تمزيق نسيج المجتمع العراقى، والاحتمال المؤكد فى انقسام دولة العراق إلى ثلاث دول شيعية وسنية وكردية.&

ولو أردنا أن نبحث عن الجذر التاريخى لحالة التوحش السائدة الآن فى العالم العربى، وفى مقدمتها نموذج تنظيم «داعش» الذى تبنى قواعد الهمجية فى العلاقات بين الطوائف لأدركنا أن «نظرية التكفير» التى تبنتها بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل «جماعة الجهاد» فى مصر و«الجماعة الإسلامية» هى أساس بروز حالة التوحش واستفحالها.&

وقد سبق لكلتا الجماعتين -بعد ارتكابهما مذابح بشعة ضد السياح الأجانب فى الأقصر- أن ضيقت الدولة المصرية الخناق عليها وقبضت على قياداتها وأعضائها وأودعتهم السجون- أن قامتا بمراجعة الأفكار المتطرفة التى تبنتها ثمنا لإطلاق سراح أعضائها من السجون.&

وقد أتيح لى أن أقوم بدراسة منهجية لحوالى 25 كتيبا من كتب «المراجعات» التى أشرف على تأليفها قادة هذه الجماعات.&

وقد خلصت من دراستى التى نشرتها بعنوان «مراجعة الفكر الإسلامى المتطرف» إلى أن الآلية الأساسية التى اعتمدت عليها هذه الجماعات التكفيرية هى «القياس الخاطئ والتأويل المنحرف».&

واكتشفت أيضا أن هذه المراجعات لم تكن سوى تراجع تكتيكى لأن الجماعات المتطرفة ظلت مصرة على تبنى نظريتها التكفيرية إزاء غير المسلمين.&

وقد أوردت كتب المراجعات النص الأصلى لنظريتها التكفيرية والتى صاغها االدكتور فضل وهو اسم حركى للفقيه المعتمد لهذه الحركات وخصوصا فى كتابه المرجعى «العمدة فى إعداد العدة».&

ونظرية التكفير المتكاملة التى تعرضها الوثيقة لها مقدمات تبنى عليها نتائج خطيرة.&

المقدمات تتمثل فيما يسجله قلم الدكتور «فضل» فى الصفحة الثانية من الوثيقة تحت بند أولاً: «دين الإسلام».&

يقول «والإسلام ملزم لجميع المكلفين من الإنس والجن من وقت بعثة النبى صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة».&

وبالتالى فالبشر جميعهم منذ البعثة النبوية وإلى يوم القيامة هم «أمة الدعوة» (المدعوون لاعتناق دين الإسلام) فمن استجاب منهم لذلك فهم «أمة الإجابة».&

وتسترسل الوثيقة فتقول اومعنى إلزام دين الإسلام أن الله ــ سبحانه ــ لن يحاسب جميع خلقه المكلفين منذ بعثة النبى صلى الله عليه وسلم وإلى يوم القيامة إلا على أساس دين الإسلام.&

والنتيجة هى فمن لم يعتنق دين الإسلام أو اعتنقه، ثم خرج عن شريعته بناقض من نواقض الإسلام فهو هالك لا محالة، إن مات على ذلك.&

واستند الدكتور فضل فى هذا الحكم الخطير إلى آية قرآنية هى: قوله تعالى «ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين» (سورة آل عمران، الآية: 85):.&

وأيد كلامه باقتباس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ إتباع غير دين الإسلام أو إتباع شريعة غير شريعة محمد «صلى الله عليه وسلم» فهو كافر.&

وفى تقديرى أنه ينبغى التحليل النقدى لهذا التأويل لخطورته فى مجال العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، واعتبارهم ذجميعاً- هالكين وكفاراً لأنهم لم يعتنقوا الاسلام.&

وبعد ذلك تقدم الوثيقة نظرية متكاملة فى الكفر مبنية على مقولة مبدئية هى أن االإسلام يتحقق بتقديم مراد الرب على مراد النفس، فإنه ينقص أو ينتقص بمخالفة ذلك، والمخالفة درجات:&

فمن قدم مراد نفسه على مراد ربه فى أشياء يسيرة فهذا مرتكب الصغائر (وهى العصيان).&

&

وقدم مراد نفسه على مراد ربه فى أشياء كبيرة مرتكب الكبائر (وهو الفسوق).&

ومن قدم مراد نفسه على مراد ربه فى أشياء عظيمة فقد وقع فى الكفر.&

وهكذا يمكن القول على سبيل القطع أن جذر ظاهرة التوحش السائدة الآن يكمن فى نظرية التكفير التى أشرنا إلى مفرداتها الرئيسية.