&هادي اليامي & &

مليارات الريالات صرفتها المملكة على طلابها الذين أرسلتهم إلى الخارج لنيل أرفع الشهادات العلمية، من أرقى الجامعات العالمية، ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، إلا أن المصير المجهول ما زال يخيم على مستقبل هؤلاء، في ظل إصرار معظم جامعاتنا الوطنية على وضع العراقيل أمام استيعابهم، والإصرار على مواصلة استقطاب الأساتذة من الخارج.

ورغم التسليم بأهمية الاستعانة بالكفاءات العلمية الخارجية، في الدول العربية والأجنبية، للاستفادة من تأهيلهم الرفيع، وخبراتهم التراكمية، وعلمهم الغزير، إلا أن استيعاب أبناء الوطن الذين نالوا درجات علمية رفيعة يبقى في ذات الوقت مهمة نبيلة، ينبغي أن تعطى الاهتمام، وتنال الأولوية، لا سيما أن بعضهم يحمل من الشهادات ما يفوق تلك التي يحملها من تبذل الجامعات جهودها في استقطابهم والتعاقد معهم من الخارج، وإن كانت جامعاتنا وإداراتها الموقرة تتحجج بضرورة توفر شرط الخبرة، فإن المنطق يدحض هذه الحجة، لأن واجبنا أن نستوعب هؤلاء الشباب، ونعطيهم الفرصة حتى يكتسبوا الخبرة التي تبحث عنها الجامعات، وإلا فكيف يستقيم أن نطالبهم بتوفر سنوات طويلة من الخبرة، ونمتنع عن استيعابهم، فمن أين سيكتسبونها؟

وحدثني بعض أولئك الشباب عن اليأس الذي أصابهم، وهم يصطدمون بجدار الشرط التعجيزي، وكيف أن بعضهم أصبح يتكاسل في تحصيله العلمي، لأن هاجس البطالة سيظل يلاحقه أينما ذهب حتى بعد الحصول على الشهادات العلمية المطلوبة. ومع التأكيد على عدم تأييد هذه الروح الانهزامية التي ابتلي بها البعض، ومطالبتهم بالتركيز على تحقيق التفوق الأكاديمي، قبل التفكير في الحصول على الفرص الوظيفية، إلا أن تلك الكلمات تبقى حديثا مرسلا، ما لم يتم دعمه بقرارات قوية، تطمئنهم على مستقبلهم، وتفتح أمامهم أبواب الأمل على مصراعيها.

والناظر إلى إحجام الجامعات عن استيعاب القدرات الوطنية يفاجأ بكم كبير من الحجج غير المقنعة، والأعذار الواهية التي يأتي في مقدمتها عدم توفر المخصصات المالية لاستيعاب الشباب، وأن من يستقدمونهم من الخارج يتم استقطابهم بنظام التعاقد، بينما يطالب السعوديون بالتعيين على وظائف ثابتة، وهي حجة تحمل بين طياتها أسباب تهافتها وعوامل ضعفها، لأن بالإمكان استقطاب الكفاءات الوطنية بنظام التعاقد أيضا، وليس هناك من القوانين والأنظمة ما يمنع ذلك، على أن يستمر العمل بهذا النظام لفترة محددة، يكتسبون خلالها الخبرة المطلوبة ومن ثم يتم تسكينهم في وظائف ثابتة، ما داموا قد امتلكوا نفس مؤهلات رصفائهم من الدول الأخرى.

ولسنا بالطبع مع الوقف الكامل للتعاقد مع الخبرات الخارجية في مجال التعليم، لأن وجودهم -على الأقل في الوقت الحالي- ضرورة لا يمكن تجاوزها، لا سيما في ظل التوجه المحمود لجامعاتنا لنيل درجات متقدمة في تصنيف الجامعات العالمية، وإنجاز الأبحاث العلمية المحكمة التي ترفع من درجة جامعاتنا في السجلات العالمية، والإشراف على الأجيال الجديدة والمخترعين الصغار ومساعدتهم على إنجاز براءات الاختراع وما إلى ذلك من أهداف نتفق معهم فيها تماما، ونشكرهم على الحرص عليها، إلا أن السعودة وتوفير الوظائف لأبناء هذه البلاد تبقى في نفس الوقت مهمة وطنية، ينبغي على الجميع أن يسهم فيها بقدر استطاعته.

ولا تقف حدود الإسهام في السعودة على مجرد تعيين هؤلاء، سواء على بند التعاقد أو في وظيفة ثابتة، بل إن واجب القائمين على جامعاتنا الموقرة يمتد إلى ضرورة اكتسابهم الخبرات النوعية التي يتمتع بها أساتذة الاستقدام، فالسعودة ليست مجرد قرارات نضع بها أبناءنا على كراسي الوظائف، بل تركز في الأساس على تنمية تلك الكوادر وإكسابها القدرة على التطور ومسايرة ظروف العصر.

ومما أشاع الراحة في النفوس أن أبرز توجهات "رؤية المملكة 2030" الاهتمام برفع كفاءات القدرات الوطنية، والعمل لتطويرها، وإحلالها تدريجيا محل العمالة الوافدة، وتقليل نسبة البطالة بين الشباب السعودي بدرجات محددة سنويا، سعيا إلى تحقيق الأمن الاجتماعي للمواطنين، ورفعا لمستوى معيشة المواطن، وتحفيزا للشباب للإسهام في تنمية أوطانهم. فهي ليست مجرد رؤية اقتصادية لتفعيل الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل، بل إن الجانب الاجتماعي نال فيها اهتماما لم ينله سواه، وحظي الإنسان السعودي بقدر كبير من الاهتمام والعناية، لأن الاستثمار في الثروة البشرية هو أفضل أنواع الاستثمار، وتنمية القوى البشرية أكبر وأجل الغايات، لا سيما في مجتمعنا الذي يمتاز بأنه مجتمع شبابي، أعمار غالبية عناصره لا تتجاوز العشرين.

ورأينا جميعا خلال الأيام الماضية كيف أن ولي ولي العهد استقبل خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة عددا من الشباب السعوديين العاملين في كبريات الشركات العالمية، وبعضهم يتقلد وظائف قيادية في شركات داخل وادي السيليكون، وأبدى سعادته بهم، وطالبهم بالإسهام في تنمية وطنهم، ونقل خبراتهم إلى أقرانهم وإخوتهم. ولا يقتصر وجود أبنائنا النجباء على الولايات المتحدة فقط، بل إن كثيرين منهم ينتشرون ويتوزعون في كثير من دول القارة الأوروبية، مخترعين وأطباء ومهندسين، فتحت لهم تلك البلاد أذرعها واحتضنتهم ووفرت لهم الفرص للترقي، فباتوا معاول بناء أساسية بها، وآن الأوان لاستردادها وتوطين خبراتها.

أبناؤنا مسؤوليتنا، أمام الله وأمام الوطن، وأمام أنفسنا وضمائرنا، إن لم نفتح لهم أذرعنا، وننقل لهم خبراتنا، ونساعدهم على اكتساب العلوم والمعارف والخبرات، فلن يجدوها عند غيرنا، ولن نستطيع القضاء على آفة البطالة التي أقضت مضاجعنا، وسلمت بعض أبنائنا فرائس سهلة لدعاة الغلو والإرهاب.

&

&