&&محمد الرميحي& &

سوف تقرأ نتائج التصويت العام الأخير لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من أكثر من زاوية، حتى الآن النتائج أحدثت زلزالاً مدويًا في الاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية على مدار الكرة الأرضية، القراءة من زاوية (عوار آليات الديمقراطية الغربية) لم توضع في أولويات النظرة الأعمق لما عرف (بأفضل أسوأ أنواع الحكم) في عالم ما بعد الثورة الصناعية.

واحدة من الأوقات القليلة التي تخضع فيها (آليات العملية الديمقراطية، وصناديق الانتخاب) إلى التساؤل العميق والصعب هو ما هي الكوارث التي يمكن أن يحدثها السياسي وهو يلعب بالآليات الديمقراطية المُتاحة؟ نتيجة الاستفتاء الأخير في بريطانيا جاءت بأغلبية بسيطة مرجحة للخروج (51 في المائة مقابل 48 في المائة تقريبًا)، وسرعان ما أفاق الجمهور على هول ما فعل، فبدأت الاعتراضات والمراجعات، وسوف ترى بريطانيا وأوروبا مراجعات جذرية لشكل آليات الحكم الذي اختارته، ولكن بعد أن تدفع الشعوب ثمنًا باهظًا لها.

في التفاصيل أن بريطانيا في معظم سني النصف الثاني من القرن العشرين كانت تراوح بين حكم حزبين المحافظين والعمال، في فترات قليلة تصعد أحزاب صغيرة تحوز نسبة من الأصوات، ولكنها لا تصمد كثيرًا. في العقد الأخير من القرن العشرين شعر الناخب البريطاني، خاصة بعد الإصلاحات التي قامت بها السيدة مارغريت ثاتشر (أواخر الثمانينات) أنه يحتاج إلى تغيير، فاتجه إلى حزب العمال الذي غير من جلده، فحكم ثلاث عشرة سنة (من 1997 الى2010) وهزم المحافظين في ثلاثة انتخابات عامة متوالية. بحث حزب المحافظين عن طرق جديدة لكسب الجمهور، فغير في طروحاته، واقترب من الوسط، في الوقت نفسه الذي تغيرت فيه بريطانيا، ولكن انتخابات 2010 التي أوصلت المحافظين إلى الحكم كانت بأقلية ضئيلة، اضطر معها السيد ديفيد كاميرون (أصغر رئيس وزراء في تاريخ السياسة البريطانية) أن يشارك حزب آخر في الحكم هو حزب الديمقراطيين الأحرار، كانت حكومته الأولى (برأسين) وهنا تكمن الأزمة. فتمهيدًا لانتخابات مقبلة غير مؤكد الفوز فيها (2015) ظهرت بقوة فكرة الاستفادة من موضوعات المهاجرين ومشكلات الاتحاد الأوروبي التي تؤرق بعض الجمهور البريطاني للحصول على أصوات، قرر كاميرون أن يلعب على عواطف الناخب البريطاني للفوز، وكان على معرفة بالشعور العام المعادي (لأوروبا) وتعظيم المشكلات المقبلة من بروكسل واهتزاز اليقين لدى الناخب البريطاني، وعد كاميرون أن ربح الانتخابات (في عام 2015) بأن يستفتي الجمهور في البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي، ذلك الوعد حمل السيد كاميرون وحزبه إلى فوز في انتخابات 2015 غير متوقع، أي الحصول على أغلبية برلمانية مريحة، دخل بعدها على عجل في مفاوضات مع بروكسل، وحصل على تنازلات أكثر مما كان لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فبريطانيا كانت قد أعفت نفسها من (الفيزا الشاملة للاتحاد) (شينغن) كما أعفت نفسها من العملة الموحدة (اليورو) كما أعفت نفسها من الخضوع إلى البنك المركزي للاتحاد، فأصبح بنك بريطانيا المركزي هو القائم على رسم السياسة المالية، لقد كانت (الأخت الكبرى المدللة!)، كل تلك الإعفاءات، والكثير من الامتيازات التي أخذتها لندن من بروكسل لم يستطع كاميرون أن يُسوقها لجمهور سُقى على مر سنوات طويلة أن كل مشكلاته الحياتية تنبع من بروكسل! وكان ذلك يناسب السياسيين، أضيف عليها الخوف المرضي من اللاجئين والمهاجرين، فأصبح كاميرون في النهاية ضحية (وعوده) التي صعد بها إلى الحكم. وهكذا دخل في الفخ، وصوت الناخب البريطاني بـ51 في المائة (أغلبية ضئيلة) إلى جانب الخروج. يظهر هنا ذلك الضعف في آلية الديمقراطية الغربية وسهولة استخدامها من خلال تقديم وعود لكسب الناخب، حتى لو كانت مضرة بالدولة واقتصادها، كما أن الكتلة المرجحة كتلة صغيرة نسبيا (بضع مئات من الآلاف)، فمجموع الذين صوتوا ممن يحق لهم المشاركة كان 30 مليونا بنسبة 71 في المائة تقريبًا من حجم من يحق لهم التصويت، أي أن هناك نحو 14 مليون صوت ضد الخروج (48 في المائة)، وهناك نحو 12 مليونا لم يذهبوا للتصويت! هذه ظاهرة مرضية في الديمقراطيات الغربية بشكل عام.

السيد باراك أوباما، حصل على 52.9 في المائة من أصوات الناخبين في عام 2008، وعلى 51.1 في المائة من أصوات الناخبين في عام 2012، إلا أن هناك نحو 80 مليون ناخب أميركي يحق لهم التصويت ولم يشاركوا في الحالتين، كما حصل السيد فرنسوا هولاند على 51.6 في الانتخابات الفرنسية عام 2012. أيضا بعدم حضور نسبة كبيرة ممن يحق لهم المشاركة! الظاهرة واضحة المعالم، أن هناك (كتلة حرجة صغيرة نسبيًا) في الجمهور المصوت في الديمقراطيات الغربية الحديثة هي التي تقرر مصير البلد كاملا، وليس هناك (رأي أو ثقل) لتلك الكتلة الثانية (الكبيرة) المصوتون ضد، التي كان لها رأي مخالف، وأيضا الذين امتنعوا (والفريقان هما الكتلة الأكبر من المواطنين) فعن أي ديمقراطية نتحدث؟ ذلك من جهة، أما من جهة ثانية والتي تظهر هشاشة الديمقراطية الغربية، هو حجم الممتنعين عن الادلاء بأصواتهم! في انتخابات مايو (أيار) 2015 البريطانية التي أوصلت كاميرون إلى سدة الرئاسة منفردا كان الإقبال فقط 66 في المائة. والسؤال ماذا عن الكتلة الكبيرة التي هي أكثر من الثلث بقليل التي يحق لها التصويت ولم تفعل! بعض الدول الأوروبية في الشمال وأيضا تركيا تفرض ضريبة على المواطن الذي لا يشارك في الانتخابات العامة، لكن هذه العملية غير معممة في أغلب الديمقراطيات الغربية، ولا يفضلها السياسيون على كل حال! فقط الجنرال شارل ديغول 1969 اشترط الثلثين ولم يحصل عليها! إذا عوار آليات الديمقراطية الغربية واضحة، استخدام عاطفي لمثيرات غير واقعية (التخويف من بيروقراطية بروكسل في الحالة البريطانية والمهاجرين)، والحصول على أصوات للوصول إلى الحكم، وضعف كبير في الإقبال على صناديق الانتخاب!

هنا نبدأ بالتوقع في الانتخابات المقبلة في الولايات المتحدة، ليس من المستبعد استخدام آليات التخويف وقلة الإقبال مجتمعة، وأن نرى السيد دونلد ترامب في البيت الأبيض في مطلع السنة المقبلة، حيث استخدم بمهارة اللعب على العواطف العامة (التخويف من المسلمين والأجانب)، والوضع الاقتصادي المتردي (تراجع الاقتصاد الأميركي، وهجرة الصناعات إلى الخارج)، مع مجموعة مهددات أخرى حتى يحصل على ترشيح الحزب الجمهوري الغارق في الخلافات، كل جمهوره من البيض المتشددين الذين أقبلوا بحماس للتصويت له، وبالتالي يمكن أن يتكرر إقبال المتحمسين لترامب في تصويت الخريف المقبل، وأن يصل إلى البيت الأبيض على جسر من أقلية الأقلية! إن الغرب اليوم، صاحب أطول تجربة (ديمقراطية) أمام مفترق طرق، يكتشف هشاشة آليات هذا النظام كما طبق حتى الآن، وضرورة إعادة النظر في تلك الآليات، التي تضعف مع التقدم التقني وتأثيرات عوامل العولمة التي تتيح لشرقي أن يتحول إلى غربي (مُهاجر أو مُهجر) فيشيع جوا من عدم اليقين يدفع المجتمعات الغربية إلى اليمينية في المواقف السياسية، يمتطيه طلاب السلطة من الساسة، مستخدمين عوار تلك الآليات للوصول إلى كراسي الحكم، بصرف النظر علن مصالح الجمهور الأوسع، الذي يعاني اليوم نتيجة تلك الهشاشة في الآليات المتبعة من تعصب وتزيف في الحقائق، بل وربما صعود فاشية جديدة تؤدي إلى احتمال اندلاع حروب!

آخر الكلام:

التخويف من المهاجرين والمسلمين في أوروبا والولايات المتحدة هو (كذبة العصر الكبرى) التي يريد أن يصدقها البعض، الدراسات تقول إن 90 في المائة من عمليات الإرهاب في أميركا يرتكبها غير مسلمين!، وبعض الدارسات تقول إن وجود المهاجرين في المدن الأوروبية يقلل نسبة الجريمة (بما فيها القتل)!

&

&

&