&توفيق السيف
&
لسبب لا أعرفه تذكرت هذا الأسبوع حرب رمضان المجيدة (أكتوبر 1973)، كنت يومها في المرحلة الثانوية، شابا اكتشف لتوه متعة المتابعة اليومية للصحافة. تذكرت أيضا مقدار الفرح الذي شعرت به وزملائي ونحن نتبادل المعلومات التي سمعوها من إذاعة لندن، أو قرأناها في الصحف اليومية المتشابهة تقريبا (والمليئة بالأكاذيب على الأرجح). كان لدينا كل يوم سبب إضافي للفرح: استرداد أراض محتلة، أسر جنود إسرائيليين، سقوط طائرات أو تدمير دبابات أو غيرها. وعلى الرغم من أن الإذاعة الإسرائيلية وربما بعض الإذاعات الأوروبية كانت تنقل أخبارا معاكسة، فإننا أحببنا أن نصغي لصوت واحد فقط، وأن نغلق عيوننا وعقولنا عن كل ما عداه.


تمر عليَّ ذكريات كثيرة جميلة عن «رمضانات» أخرى، لكن يستحيل أن ينافس أي منها رمضان 1993 في تحولاته اليومية التي لا تضاهى.
لم أعرف السبب استذكاري لهذ العام بالتحديد. هل هي الإعلانات المتوالية عن غرق العشرات من لاجئي القوارب في البحر المتوسط، أم التفجير الذي حصد 120 مدنيا في بغداد، أم التفجير الإرهابي الفاشل في جدة يوم الأحد، أم الكشف عن عصابة تفجير المساجد في الكويت، أم انتهاء عملية احتجاز الرهائن في العاصمة البنغالية دكا، بعد قتل 20 من الرهائن.
المؤكد أن التناقض الشديد بين التخيلات والمشاهد الواقعية، وربما التفكير في مآلات تلك الحوادث، تستفز الذاكرة وتبعث ذكريات دفنت منذ أزمان بعيدة. أو لعلها محاولة في اللاوعي لتفادي الإقرار بالعجز عن تكوين موقف فعال يوقف شلالات الدم والألم التي تحاصرنا شرقا وغربا.
هناك أكثر من احتمال بالتأكيد. لكن لسبب ما، وجدت الاحتمالات المتشائمة أكثر إلحاحا من أختها المتفائلة على ذهني. إنني أتساءل في هذه اللحظة: لماذا لم تتوارد إلى ذهني الاحتمالات الطيبة: مثل احتمال أن يكون استذكار نصر أكتوبر 1973 تذكيرا لي ولأمثالي بأن سواد هذه الأيام ليس نهاية العالم، وأن الأيام إنما أمست سوداء؛ لأن سابقها كان خيرا منها. لولا الأيام البيض لما وصفت أختها بالسواد، ولولا الفرح السابق لما عرفنا الحزن اللاحق.
أيا كانت الحال، فإنني أحاول استبعاد التفكير السلبي وذكريات البؤس والألم، التي لا أستطيع مساعدة أصحابها، ولا أستطيع احتمال رؤيتها أيضا. لقد انتهى رمضان بذكريات أفراحه الغابرة وأليم أتراحه الحاضرة. وأشرق علينا عيد أراد الله أن نشعر فيه بالفرح والتفاؤل، مهما كانت الحال عصيبة.
نتبادل التهاني في العيد، ليس لأن أوضاعنا مبشرة، بل لأن علينا الإقلاع من ظرف التشاؤم. لا يمكن تغيير واقع سيئ ما لم تؤمن ببديل أفضل منه. لا تستطيع العبور من حالة الانحطاط ما لم تشعر بالقدرة على كسر آلامه وقيوده، واعتناق نقيضه.
نتبادل التهاني في العيد إذن، كي نذكر بعضنا بعضا بقدرتنا، قدرة الإنسان ككل، على نقض الواقع الفاسد واستبداله. سوف ننتهي من هذه الآلام يوما ما، وإن لم نستطع فسوف نقاتلها باستعادة ذكريات الفرح وإن كانت ناقصة.. كل عام وأنتم بخير.
&

&