صلاح سالم&


كتب المفكر المرموق د. مصطفى الفقى على هذه الصفحة، قبل أسبوعين، مقالا شديد الأهمية، حول إصلاح التعليم الأزهرى، مقترحا الفصل بين الكليات الدينية التى تقدم تعليما لصيقا بعلوم الإسلام الشرعية، يفترض استمرارها تحت غطاء جامعة الأزهر، وبين الكليات المدنية، التى تقدم تعليما لصيقا بالعلوم الحديثة، والتى اقترح سيادته أن تنضوى تحت لافتة «الجامعة الإسلامية» وأن تحتفظ بمقرر شرعى يشرف عليه الأزهر الشريف.

مبدئيا، الفكرة جيدة جدا، وأظنها أكثر جدوى وعملية وفائدة مستقبلية من السجالات الدائرة حول تجديد الخطاب الدينى، كونها تصحح وضعا خاطئا، وتعيد الأزهر إلى دوره التاريخى الذى كان قائما قبل إصدار قانون تطوير الأزهر فى ستينيات القرن الماضى، وإدخال التعليم المدنى إلى ساحته، وهو التطور الذى أدى إلى عكس المطلوب منه تماما. لقد تصور الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، بتفاؤله التاريخى المعروف وحسه التقدمى الحاسم، أن ذلك التطوير سيؤدى إلى تحديث التعليم الدينى، وينتج علماء دنيويين متفقهين فى الدين، يمكن توظيفهم فى دعم القوى الناعمة المصرية فى الخارج، خصوصا فى إفريقيا. ولكن ما حدث فعليا، لأسباب تتعلق بحالة الثقافة ومسارات الحرية، إنما هو تديين التعليم الحديث. ولعله صار معروفا أن العديد من المنتمين إلى الجماعات الدينية قد تخرجوا فى كليات الأزهر.

نتفق إذن مع د. الفقى على ضرورة التخلى عن المكون المدنى فى التعليم الأزهرى، لكننا نختلف معه حول صيغة التخلى، فليس مجديا أن يبقى هذا المكون تابعا لإشراف أزهرى، أو حاملا لمسمى الجامعة الإسلامية، لأن خريج هذه الجامعة سوف يبقى قريبا من دائرة الوعى الراهن، القائم على الخلط، خصوصا أن هذا الاسم هو نفسه اسم جامعة باكستانية عريقة فى تخريج المتطرفين. وما نقترحه هنا أن يتوقف التعليم المدنى بالأزهر تماما بعد أن يتخرج فيه كل من التحقوا به حتى لا تضيع حقوقهم الأدبية، وليكن ذلك بدءا من العام 2020م. مع توزيع البنية الأساسية الحاضنة له من مبان وقاعات درس على الكليات الدينية المختلفة لتخفيف أعداد الطلاب فى القاعات، وزيادة مساحات الحوار مع أساتذتهم، وكذلك لإضافة عام دراسي واحد (إعدادى) يتم خلاله تهيئة الطالب قبل دراسة علوم الإسلام (الشرعية) بدراسة مزيج من علوم الدين (الإنسانية)، أى دراسة الدين باعتباره ظاهرة إنسانية كبرى تسبق الإسلام، وتتمدد حوله، ليصبح لدينا وعاظ وفقهاء أكثر انفتاحا على العصر، وأعمق دراية بتاريخ الدين كظاهرة كبرى، سواء أديان الوحى (اليهودية والمسيحية) أو الأديان الطبيعية التى تزدهر فى العالم الآسيوى حتى الآن (كالهندوسية والبوذية والكونفوشية والتاوية)، فمن دون وعى الدارس الأزهرى بتاريخ الدين وفلسفته لن يكون بإمكانه تقدير قيمة الإسلام

، باعتباره نهاية سيرورة التطور الدينى، وكونه أكثر الأنساق الإيمانية معقولية، وأكثر الأنساق العقلانية إيمانية. ناهيك بالطبع عن تقدير قيمة الأديان السابقة عليه، والتى قدم بعضها تصورات عن الحقيقة الإلهية أسهمت فى تهيئة الوعى الإنسانى لقبول التوحيد الإسلامى المطلق. كما صاغت جميعها رؤى خلقية حول كيفية السمو بالروح والسيطرة على الغرائز، أسهمت فى التأسيس لأخلاق كونية صارمة، ناهيك عما دشنته من ممارسات روحية يسهم تأملها فى فهم ظواهر كالتصوف الإسلامى والرهبنة المسيحية والقبالاة اليهودية، وذلك من قبيل اليوجا والنيرفانا وغيرهما. فإذا ما استمر الجهل بتلك الأديان لن يكون ممكنا لدارس الأزهر التسامح مع معتنقى الأديان الآخرى، تسامحا عميقا لا شبهة فيه ولا مظهرية، عملا بقول كتابنا العزيز (لكم دينكم ولى دينى). بل سيبقى لدينا أولئك الوعاظ الذين يختتمون خطبهم بالدعاء على اليهود والنصارى باعتبارهم كفارا، ولا يرون فى الهندوسية سوى عبادة البقرة متجاهلين ما تزخر به، مع البوذية، من مفاهيم عديدة سامية.

يحتاج التعليم الدينى إذن إلى تركيز أكبر عليه، بمنحه الفضاء المكانى الذى كان متاحا للتعليم المدنى. كما يحتاج إلى مبدأ ملهم يستند إليه من قبيل (نسبية الحقيقة)، ليتمكن رواده من تجاوز مفهوم التسامح الدينى، إلى مفهوم التفاهم الإنسانى، والفارق بينهما كبير رغم التشابه الظاهرى. فالأول ينطلق من النصوص المقدسة بالأساس، وخصوصا فى التقليد التوحيدى، اليهو ـ مسيحى ثم الإسلامى. والمؤكد أنه لم يمنع الصدامات الدامية سواء بين المذاهب نفسها داخل كل دين، أو بين الأديان المختلفة. ويرجع ذلك إلى كونه مفهوما استعلائيا بالأساس، فثمة طريق واحد للخلاص، يملكه دين أو مذهب، ولكن يمكنه التغاضى فقط عن كفر/ هرطقة الآخرين، كضرورة (عملية) للتعايش، الأمر الذى جعل منه مفهوما رجراجا،

لأن حاكما، مسلما كان أو مسيحيا، يرى إمكانية التسامح مع الكفر/ الهرطقة، ربما يتبعه حاكم آخر لا يرى ذلك، بل يتجه فورا إلى حصار الزندقة وتصفية الكفر، وفرض مفهومه الذاتى للخلاص، وهنا تتفجر الدماء. أما الثانى فينطلق من الوضع الإنسانى نفسه، أى من مجرد الاختلاف، إيمانا من كل شخص بأن الآخرين يملكون قدرا من الحقيقة مثلما يملك هو. وربما أدرك باطنا أن القدر الذى يملكه من الحقيقة يفوق ما يملكه الآخرون منها، ولهذا يبقى على إيمانه الإسمى كما هو. غير أن الأمر يصبح هنا محصورا فى الأكبر من أو الأصغر، حيث الحقيقة نسبية. ولم يعد، فى المقابل، الخطأ المطلق هناك والصواب المحض هنا أو العكس، حيث الحقيقة مطلقة. وهكذا يحتوى مفهوم التفاهم الإنسانى على تسامح أصيل ودائم ينطلق من إيمان صادق بنسبية الحقيقة، وتوزع أقدار مختلفة من الخير والفضيلة على عديد الأديان والمذاهب، ومن ثم يصبح ممكنا التعايش الكامل بينها، على قاعدة الإنسانية المشتركة.