&أحمد خالص
&

&في الوقت الذي تتجه فيه البشرية إلى البحث عن المشترك الإنساني، والحوار وسبل الالتقاء الديني والفكري والاقتصادي، و التفكير في منظومة قيم جديدة مضمونة المستقبل بعد فشل النماذج السائدة اليوم حسب جيروم بندي، وفي الوقت الذي نجحت فيه بعض النماذج التي تمتلك رؤية شمولية للكون والإنسان والحياة، ترتفع بعض الأصوات والحركات الداعية إلى الاثنانية والاختلاف والانقسام داخل المجتمع الواحد.

في هذا السياق أطلق عدد من المغاربة المسيحيين مع بداية شهر رمضان الأبرك، قناة على موقع "اليوتوب" للتحدث عن معتقداتهم الدينية علنا للمرة الاولى بعد أن كان نشاطهم محصورا في مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الأنترنت .

وحسب التقديم الذي اختاره القائمون على هذه القناة، فهذه الأخيرة تبث برنامجا يحمل عنوان "مغربي ومسيحي"، وهو عبارة عن حلقات قصيرة، يقدمها مغاربة مسيحيون من داخل المغرب وخارجه يشرحون إيمانهم ويردون على الفهم المغلوط للمسيحية والشائعات التي يروجها البعض ضدهم.

ويبقى هدف البرنامج وفقا لإحدى المسيحيات المغربيات، هو تشجيع المغاربة المسيحيين الذين يخشون إعلان مسيحيتهم خوفا من السلطات والمجتمع على الحديث للعلن. كما يهدف البرنامج إلى تعريف المغاربة المسلمين عن المسيحيين بعيدا عن الفهم الخاطئ.

تحليل الخطاب الديني للقناة.

يظهر من خلال سيمياء هذه القناة خطابيا وأيقونيا أن هناك استثمار وجهد كبير مخصص لهذه القناة وجهات منظمة تقف وراءها، يتمظهر ذلك من خلال قوة الصوت ، ووضوح الصورة، ومهنية الإخراج، ونفاسة الديكور والمشاهد الخلفية، ودقة اختيار الشخصيات، وتوظيف كل تقنيات واستراتيجيات الخطاب التي تؤدي بالعقول إلى التسليم بما يعرض عليها من دعاوى و التصديق به، وعند تحليلنا لنوع الخطاب الذي تصرفه هذه القناة، نجدها توظف كل عناصر الحجاج والإقناع .

توظيف موضع المشترك.

قيم الوطنية ، من خلال تأكيد كل الأصوات المتحدثة على أنهم مسيحيون مغاربة وليسوا نصارى، وبأنهم متشبتون بوطنيتهم، وهويتهم المغربية، وحبهم لبلدهم المغرب ،وأن الدين لله والوطن للجميع، وأن انتمائهم للمغرب حقيقة لا يمكن تغييرها ، وتوظيف مشترك الوطنية محاولة لجعل الخطاب مقبولا عن المستمع أو المتلقي.

الملكية ، يشدد المتحدثون على حبهم للملكية، والدعاء له وللقائمين على التسيير في صلاتهم من أجل الحكمة والعون، لإكساب خطابهم مزيدا من القبول عند الرأي العام .

توظيف موضع الكم.

كل المتحدثون على هذه القناة يؤكدون على أنهم مسيحيون مغاربة، مثل عدد كبير من المغاربة، للإيهام بانتشار واتساع دائرة المسيحية وأتباعها بالمغرب، وموضع الكم يجعل المتلقي يسلم بما يلقى عليه ، ويزيد في ذلك إلى درجة التصديق.

توظيف تقنية المحاورة.

تلجأ هذه القناة إلى تقنية المحاورة المفترضة ، بخلق نوع من الحوارية وتعدد الأصوات بين الشخصية التي تتحدث على القناة والمستمع الافتراضي، ومساجلتة والإجابة عن أسئلته.

توظيف القيم المسيحية.

يلجأ الخطاب المرر في هذه القناة إلى استثمار قيم وتعاليم المسيحية ، كالمحبة، والسلام، والتضحية، واحترام الآخرين، والحق في الاختلاف، وغيرها من القيم التي وجدوها في المسيح، في محاولة لتأسيس صورة النموذج حسب تعبير شايم بيرلمان في كتابه "مصنف في الحجاج"

توظيف خطاب الاضطهاد.

ينتقد هؤلاء المتحدثون عدم التسامح والانفتاح وقبول الاختلاف، من قبل السلطات والمجتمع، دفعهم إلى إخفاء دينهم، ويذهب بعضهم إلى اتهام الدين الإسلامي بأنه دين غير متسامح مع غيره من الديانات.

الدعوة الضمنية إلى المسيحية.

يلجأ المتحدثون على هذه القناة في ختام خطاباتهم إلى دعوة كل مؤمن بالمسيح إلى التشجع والظهور علنا إلى جانب إخوته المسيحيين، الذين أرسلهم الله نورا وملحا في أرض المغرب، والصلاة من أجل أن يلتقي بهم، وتوسيع هذه الدعوة إلى كل مسلم مغربي إلى متابعة قناتهم من أجل التعرف على دينهم وتكوين صورة عنهم، وتصحيح الفهم المخلوط الذي يروج ضدهم.

يظهر إذا من خلال هذه الخطابات أن حرية المعتقد التي تتحدث عنها القناة لم تعد قناعة شخصية بين العبد خالقه، ولم يعد الشخص محتفظا باعتقاده في نفسه، ممارسا لعقيدته في كل الكنائس والمعابد التي تنتشر في بلاد المغرب، وإنما أصبح ذلك خروج إلى العلن ودعوات صريحة وضمنية إلى تغيير المعتقد.

فما هو موقف الدين الإسلامي، والقانون الجنائي، ومكونات المجتمع المغربي.

حول فتوى المؤسسة الرسمية للإفتاء بالمغرب في حكم المرتد.

أصدر المجلس العلمي الأعلى سنة 2013 فتوى حول حكم المرتد في الدين الإسلامي، يقول نصها:

"أما بالنسبة للمسلمين: في شأن حرية المعتقد والدين، فإن شرع الإسلام ينظر إليها بنظر آخر، ويدعو المسلم إلى الحفاظ على معتقَده وتدينه، وإلى التمسك بدين الإسلام وشرعه الرباني الحكيم، ويعتبر كونه مسلما بالأصالة من حيث انتسابه إلى والدين مسلمين أو أب مسلم التزاما تعاقديا واجتماعيا مع الأمة، فلا يسمح له شرع الإسلام بعد ذلك بالخروج عن دينه وتعاقده الاجتماعي، ولا يقبله منه بحال، ويعتبر خروجه منه ارتدادا عن الإسلام وكفرا به، تترتب عليه أحكام شرعية خاصة، ويقتضي دعوته للرجوع إلى دينه والثبات عليه، وإلا حبط عمله الصالح، وخسر الدنيا والآخرة، ووجب إقامة الحد عليه".

في القانون الجنائي المغربي.

إذا رجعنا إلى الفصل 220 من القانون الجنائي المغربي، نجده يجرم كل عمل يزعزع عقيدة المسلم، يقول: "من استعمل العنف أو التهديد لإكراه شخص أو أكثر على مباشرة عبادة ما أو على حضورها، أو لمنعهم من ذلك ، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائة إلى خمسمائة درهم.

"ويعاقب بنفس العقوبة من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، وذلك باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أو المياتم، ويجوز في حالة الحكم بالمؤاخذة أن يحكم بإغلاق المؤسسة التي استعملت لهذا الغرض، وذلك إما بصفة نهائية أو لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات ".

يظهر من منطوق هذا النص القانوني، أن القانون الجنائي لن يتدخل في حال تحول الناس إلى المسيحية أو إلى الالحاد، ولا يتضمن أي نصوص تعاقب على تغيير اي شخص لديانته.وأن العقوبات المرتبطة بتغيير الدين لها علاقة بوجود استغلال من نوع خاص، كاستغلال الهشاشة الاقتصادية لتغيير الدين أو زعزعة عقيدة مسلم باستغلال وضعه الاجتماعي.

ما ذهب إليه المجلس العلمي الأعلى في وجوب إقامة الحد ، هو ما أجمع عليه فقهاء الإسلام حول عقوبة المرتد، وإن اختلفوا في تحديدها، أثارت الكثير من النقاش، وانقسم المجتمع المغربي إلى قسمين: الأول يساندها على أساس أن المغرب بلد إسلامي وقوانينه مستمدة من الشريعة الإسلامية، والقسم الثاني يرفضها ويرفع راية حقوق الإنسان والمرجعية الدولية التي تتبنى حرية المعتقد.

ضد حقوق الإنسان

يعتبر ناشطون حقوقيون فتوى المجلس وبلاغات الداخلية بمثابة الوصاية على المواطنين وقمعا لحرياتهم الفردية. هذا الرأي عبرت عنه جمعية "بيت الحكمة" التي أصدرت بيانا عبرت فيه عن "استغرابها للشديد للفتوى التي أصدرها المجلس العلمي الأعلى بخصوص حرية المعتقد والتدين، والقاضية بقتل المرتد".ووصفت الفتوى بأنها لا تتعارض مع روح ومنطق الشريعة فقط، بل أيضا مع المواثيق والعهود الدولية التي تكفل حرية الفكر والعقيدة، كما تتعارض مع التطورات المهمة للمنظومة الحقوقية في المغرب.

حماية الأمن الروحي وتدين المغاربة

ذهب بعض الباحثين والعلماء إلى محاولة تفسير ما صدر عن مؤسسة الافتاء الرسمية، ومن ضمن هؤلاء الباحث في الفكر الإسلامي" أحمد الشقيري الديني" ، الذي رجح في مقال منشور له بجريدة هسبريس الالكترونية أن يكون المجلس أراد بفتواه هذه أن يواجه حملات التنصير التي تستهدف المغرب، باعتباره "ملتقى الحضارات، وأقرب بلد إفريقي إلى أوروبا المسيحية". مضيفا أن"هناك جماعات تبشيرية تنشط على أراضي المملكة، تمّ طرد بعضها ومتابعة بعضها قانونيا، وأن التنصير يهدد الكيان السياسي للدولة المغربية بمضمونها الديني القائم على إمارة المؤمنين والبيعة الشرعية".

واعتبر أن التسامح مع التبشير المسيحي على الأراضي المغربية معناه فتح المجال الإعلامي مستقبلا لقنوات تنصيرية باللغتين العربية والأمازيغية، "وربما بالدارجة المغربية، وسترصد له إمكانات هائلة ومتطورة تسمح باختراق الهوية المغربية" والنسيج الاجتماعي التي يعد الدين أرسخ مكوناتها، حسب قوله.

فالفتوى الجديدة للمجلس جاءت حسب الباحث الشقيري لـ"حماية المجتمع من مخاطر التنصير، والدفاع عن المضمون الديني لإمارة المؤمنين، ومن ظنّ أن العلماء في شرود بإصدارهم لهذه الفتوى، فإنه جانب الصواب".

كلمة منصفة

وأود أن أعقب على تلك الدعوات والخطابات السابقة، بمبادئ الدين الإسلامي ، في التسامح والتعايش وقبول الآخر والتعدد والاختلاف مع غيره من الديانات الأخرى، وتجلياتها في وحدة الأنبياء، وسماوية الأديان، وحرية المعتقد، وحرمة أماكن العبادة، والاعتراف بالاختلاف.

سماوية الأديان : فالديانات كلها تستقى من مصدر واحد كما جاء في قوله تعالى:" شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" سورة الشورى الآية 13.

وحدة الأنبياء: فجميع الأنبياء إخوة لا فرق بينهم من حيث الرسالة، وأن على المسلمين أن يؤمنوا بهم جميعا مصداقا لقوله تعالى: " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" البقرة الآية ( 136 )

حرية المعتقد: ضمن الإسلام هذه الحرية التي لا يمكن الإكراه عليها؛ بل لا بد فيها من الاقتناع. مصداقا لقوله: " لا إكراه في الدين" : البقرة الآية (256)

حرمة أماكن العبادة: فجميع هذه الأماكن في نظر الإسلام محترمة يجب الدفاع عنها، وحمايتها كحماية مساجد المسلمين، لقوله تعالى:" ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا " الحج الآية (40)

القبول بالاختلاف: برهن الإسلام بما يكفي عن قبوله بالآخر، عمليا وواقعيا، ورفض كل أشكال التمييز اتجاهه على أساس اللون أو العرق أو الدين. وقد نظر الإسلام إلى الاختلاف على أنه طبيعة بشرية من أجله خلق البشر" ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم" وقد اتخذ هذا الاختلاف في الإسلام بعدا عمليا يتعلق بالدعوة إلى التعاون، وبعدا أخلاقيا يتمظهر في الحوار والتدافع السلمي والحضاري بالكلمة والفكرة. وعلى الإسلام اليوم أن يستعيد هذا البعد الانساني الكوني، كما على المسلمين أن يرقوا بالخطاب الإسلامي إلى الخطاب الإنساني العالمي، انسجاما مع الرؤية القرآنية النسقية مع عموم الرحمة الممتدة وعالمية الإسلام، فالآيات القرآنية تتجرد من كل ما هو خصوصي ومن الجغرافيا والحدود؛ لتسبح في فضاء من الكونية.

في المقابل لم تثبت الحضارة الغربية (المسيحية واليهودية) القائمة - حسب زعمها المتواصل- على أسس أخلاقية، وخطاب التسامح والإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان، قدرتها على قبول الآخر واستيعابه، ولا القدرة على تحمل الاختلاف معه، ولا على فهم العالم إلا على صورة نمطية موحدة، هي أن يكون الآخر انعكاسا لصورته المهيمنة.

على الخطاب الديني اليوم البحث عن المشترك الإنساني، وعلى الإنسانية اليوم البحت عن منظومة قيم جديدة مضمونة المستقبل حسب الباحث الأخلاقي "جيروم بندي" كتابه " القيم إلى أين"

إن العالم اليوم، لا يعرف أزمة قيم، فالقيم موجودة دائما وتاريخ البشرية لم يشهد من القيم بالقدر الذي نشهده اليوم، وإنما أزمة العالم هو أنه أضاع بوصلته الأخلاقية والسلوكية، هذه الأزمة تستلزم نظرة نقدية بالشروع في إعادة النظر في الكثير مما أنتجه الفكر والعقل البشري، فكل الأديان تتساوى في القيمة، وخطأ التفافات أنها نظرت إلى هذه الأديان على أنها غير متساوية.

هذه هي مبادئ التسامح الديني في الاسلام الذي أقام عليها حضارته، والتي لا يمكن أن تتعارض بأي حال من الأحوال مع دين آخر أو تتعرض لاتباعه بالاضطهاد.