&فهمي هويدي

&
أستغرب ألا ينال غش الطلاب في الامتحانات حقه من البحث الجاد والمعمق. ويدهشني أن يقتصر الأمر على محاسبة بعض الموظفين وتشديد العقوبة على واقعة الغش، أو على طباعة الأسئلة في مطابع الجهات السيادية. وهذه إجراءات قد تكون مفيدة في الوقت الراهن، على الأقل لتهدئة المشكلة وتسكينها مؤقتا، لكني أزعم أنها لا تمثل حلا لها. وإذا سألتني ما الحل إذن، فردي أنه لا يوجد لدي حل، لكن ما أعرفه أن الأمر أعمق وأعقد من أن يحل بمثل تلك الأساليب، أعرف أيضا أن مسألة الغش وتسريب الامتحانات تمثل أحد أوجه المشكلة أو الجزء الذي برز منها في العام الحالي. أما الجزء الغاطس فهو الأكبر والأخطر.

قبل أن أخوض في التفاصيل فإنني أعيد التأكيد على أننا أمام مشكلة وثيقة الصلة بالأمن القومي لمصر، وأن الذين ينجحون بالغش الآن هم الذين سيحكمون الوطن بعد عشر سنوات أو أقل. ولنا أن نتصور مستقبل بلد يقوده مثل هذه النماذج التي تفوقت بالتزوير والغش.

لست مؤهلا لتقديم مقترحات حل المشكلة، لكني قد أستطيع أن أسهم في تشخيصها سواء بالملاحظة المكتسبة من خبرة العمل أو من خلال ما سمعت من آراء لأصدقاء في مختلف مراحل التعليم، من الابتدائي إلى الجامعي وما بعد الجامعي.

قال لي صديق حي يرزق إنه لم يُقبل حين تقدم للالتحاق بمدرسة ببا الابتدائية الحكومية بمحافظة بني سويف في عام ١٩٤٨، لأنه رسب في امتحان المعلومات العامة. إذ سئل عن موعد زراعة محصول القمح فأخطأ في الإجابة. ورفض طلبه رغم حصوله على الدرجة النهائية في الحساب والإملاء ونجح في المطالعة. حينذاك اضطر للالتحاق بمدرسة واصف غالي الابتدائية الخاصة بالمدينة، لكنه لم ينجح في امتحان اللياقة الصحية، وأعطي مهلة أسبوعين ليستعيد عافيته بالمقويات. وحين قُبل ووصل إلى الصف الثالث فإن مدرس الحساب (الأستاذ ويلسون) أراد تقوية تلاميذه فطالبهم بالقدوم إلى المدرسة قبل ساعة من الموعد كي يعطيهم درسا يرفع به مستواهم. وفعل ذلك متطوعا وبغير مقابل. ودروسه كانت تستمر من أول شهر مارس وحتى موعد امتحان نهاية العام.

إذا كان ذلك مستوى الابتدائية في الأربعينيات، فإننا عندما نكتشف أن وزير التربية والتعليم يخطئ في اللغة العربية، وتصدمنا لغة رئيس البرلمان الذي كان أستاذا جامعيا مرموقا، كما تدهشنا ركاكة لغة كبار القضاة وهم يقرأون أحكامهم، فإن ذلك لابد أن يذهلنا وينبهنا إلى أنها ليست مشكلة لغة ولكنها أزمة نظام تعليمي آخذ في التدهور، فضلا عن أنه يقلقنا إذا اعتمدنا مقولة ابن حزم التي ذكر فيها أن اعوجاج اللسان علامة على اعوجاج الحال.

أرجو ألا أبالغ إذا قلت إنه لم يعد لدينا تعليم حقيقي في مصر، لا في التلميذ أو المدرس أو المدرسة أو المناهج التي نحشو بها رءوس التلاميذ، الذين أصبح بعضهم لا يجيدون القراءة والكتابة وهم في الإعدادية، أي بعد نحو ٦ سنوات من التعليم الوهمي.. والفساد في التعليم الخاص لا يختلف كثيرا عنه في التعليم العام. ذلك أنه تجارة بالأساس، ولأن ثمة تفاخرا بينها في السمعة ونسب النجاح، فإن أصحابها يتساهلون في إنجاح الطلاب لتسويق مشروعاتهم وإغراء أولياء الأمور وجذبهم.

حين يكون الأمر كذلك في مختلف مراحل التعليم العام، فلا ينبغي أن نتوقع الكثير من التعليم الجامعي، الذي أصبحت أغلب قياداته مشغولة بالأمن بأكثر من انشغالها بالتعليم خصوصا في الجامعات الحكومية التي تضم العدد الأكبر من الشباب. أما الجامعات الخاصة، التي هي بدورها مشروعات تجارية، فإن الارتقاء بالتعليم آخر ما يشغلها، بعدما أصبح الربح هو أول وأكثر ما يشغلها.

حكي لي أستاذ مرموق في الطب أنه عين عميدا لإحدى كليات الطب في جامعة خاصة وأنه فصل أحد الطلاب الذين ضبطوا متلبسين بالغش في الامتحان. وهو ما أثار استياء صاحب المشروع الذي قرر إعادة الطالب الغشاش، وقال للأستاذ صراحة إن أمثال هؤلاء هم الذين يغطون مرتبات الأساتذة واحتياجات الجامعة، فلم يجد الأستاذ مفرا من تقديم استقالته ردا على ذلك. ولنا أن نتصور أن ما أغضب صاحبنا ودفعه إلى الاستقالة، ربما قبل به آخرون ممن يعتمدون في مواردهم على الاستمرار في الوظيفة. بالمناسبة فإنني سمعت رأيا لخبير بريطاني في الأطباء المصريين المتقدمين للزمالة في بريطانيا، قال فيه إن ثلثهم يمكن أن ينالها بعد عدة محاولات، والثلث الثاني غير مؤهل للحصول عليها، أما الثلث الثالث فيشمل أناسا غير مؤهلين للاشتغال بالطب أصلا!

في هذه الأجواء لم يكن مستغربا أن تتسرب بذور الفساد وآفته إلى المحيط الجامعي، فتكثر السرقات بين الأساتذة، وتظهر مكاتب طبخ رسائل الماجستير والدكتوراه لمن يريد.

لا أريد أن أعمم، لأنني أعرف نماذج سبحت ضد التيار ولا تزال قابضة على الجمر، فالشرفاء لم ينقرضوا لكنهم صاروا استثناءات في مختلف مراحل التعليم. ما يزعجني ليس فقط تعدد مظاهر الخلل واستفحاله، ولكن السكوت على الخلل والتعامل معه بأسلوب المسكنات وردود الأفعال، كما حدث أخيرا في مسألة الغش وتسريب الامتحانات. وحين تكون الحكومة مشغولة بالاقتصاد والأمن، والبرلمان مشغولا بالتوقيت الصيفي ودعم الحكومة، والنخبة مشغولة بالمزايدة على تجديد الخطاب الديني، فلا غرابة أن تتراجع أهمية ملف التعليم وتتفاقم مشكلاته. ويزداد الأمر تعقيدا إذا أدركنا أننا دأبنا على إحالة مشكلاتنا المستعصية إلى القوات المسلحة لكي تنهض بها. لكنها في هذا الملف بالذات لا تستطيع أن تفعل فيه شيئا يذكر.