&سامح فوزى


الدراسات التي تصدت لأسباب التطرف كثيرة، ومتنوعة، بعضها يرجح التفسيرات الدينية المغلوطة، وبعضها الآخر يرى في التهميش السياسي أولوية، بينما يذهب فريق ثالث إلى ترجيح العوامل الاقتصادية والاجتماعية مثل الفقر والبطالة، الخ.


بالطبع هناك بعض أو كل هذه الأسباب في قائمة العوامل التي تؤدي إلي أو تعزز ظاهرة التطرف الديني في المجتمعات العربية، ومنها المجتمع المصري. ولكن هناك عاملا محوريا لم نوله من الاعتبار ما يستحق رغم أنه سبب أساسي في استمرار التطرف، رغم ما يواجهه أحيانا من حصار، وتضييق، ومواجهة أمنية وثقافية، هو دور الدين في المجتمع، وهو ما أشار إليه عالم الاجتماع الألماني الشهير «ماكس فيبر»، وأفاض في تناوله، وهو المفكر الذي له إسهام أساسي في تأسيس علم الاجتماع الديني.

يفرق «ماكس فيبر» بين نوعين من الأدوار الدينية في المجتمع. الأول: رجل الدين، أي المعبر عن المؤسسة الدينية بما تحمل من علاقات تراتبية، وتراث ثقافي، وشكل معين للتدين تتبناه. الثاني: النبي، بما له من حضور مؤثر لا يستند فيه إلى سلطة أيا كان نوعها، ولكن إلى علاقته المباشرة بالناس، وما يقدمه لهم من دعوة إلى التغيير. في رأيه أن رجل الدين هو الذي يعمل في المؤسسة الدينية، ولكن النبي له دعوة شخصية، وكيل التغيير الاجتماعي الحقيقي، ينتقد الحاضر، ويبشر بمستقبل أفضل. في الديانات الإبراهيمية يأتي النبي حاملا رسالة الله إلى البشر، يدعوهم إلى إتباع الحق، والوصايا الإلهية، أما النبي في المعتقدات الوضعية الآسيوية مثل البوذية فله مفهوم آخر، فهو لا يحمل رسالة إلهية، بل يقدم نفسه على انه شخص يحمل معارف لحياة أفضل، يشارك بها أتباعه.

من هنا فإن البنية الاجتماعية الدينية في المجتمع العربي لم تعرف سوي نمطين: رجل أو عالم الدين المرتبط بالمؤسسة الدينية، والشخص الذي يرتدي مسوح الأنبياء، ويقدم نفسه بوصفه حامل التفسير الديني السديد، ورسالة الخلاص، وتغيير واقع ظالم، حتى لو انطوى ذلك على نقده، وتكفيره، والدعوة إلى الانقطاع عنه، وتأسيس واقع مختلف منشود. المواطن في مجتمعنا يحتاج دائما إلى خطاب يربط بين الدين وتغيير الواقع الاجتماعي، بحيث يتحول فائض التدين القائم إلى طاقة تغيير حقيقي.

جماعات التطرف أيا كان أسمها أو زمنها تتحرك أغلب الأحيان خارج المؤسسة الدينية الرسمية، لديها جمهورها من المتعلمين، وبعضهم حاصل على شهادات علمية في الطب والهندسة، وتحمل رسالة دينية للمجتمع، ممزوجة بالنقد السياسي والاجتماعي، تنشئ شبكات اجتماعية عميقة حولها، ويمتلك قياداتها «كاريزما» شعبية تجعل لهم تواصلا مع الجمهور، ويطرحون أنفسهم على أنهم «مرسلون» إلى المجتمع لخلاصه من الظلم، والضلال، وحمله مجددا إلى جادة الصواب.

مما سبق يتضح أن هناك دائما طلبا على جماعات التطرف أيا كان زمانها وأسمها، فهي تنتقد الواقع، لا تبرره، تطالب بالتغيير الذي تتطلع إليه قطاعات واسعة من المجتمع، خاصة الذين يعانون اقتصاديا واجتماعيا، وتتواصل مع الجمهور في شبكات اجتماعية تسد بعضا من احتياجاتهم، وتوفر لهم مرجعية استرشادية في مجتمع متقلب. وأيا كانت قدرة المجتمع على حصار الجماعات المتطرفة في مساحة جغرافية أو في فترة زمنية معينة، ما تلبث أن تنشأ غيرها، وتظهر بدائل أخرى، قد تكون أكثر راديكالية من سابقتها.

الحل ليس فقط في حصار التطرف، ولكن في تجفيف منابع الطلب عليه. ولن يتسنى ذلك إلا عندما تتبني المؤسسة الدينية خطاب التغيير الاجتماعي، ولا تكتفي فقط بالتأكيد على العقائد أو محاربة البدع أو التعليم الديني أو الاهتمام بممارسة الشعائر. إذ لم يعد يناسب العمل الديني المؤسسي مجتمعات تعاني، وسوف تستمر معاناتها لفترة زمنية، مجتمعات تتطلع إلى التقدم، وتريد سندا من القيم الدينية، بحيث يصبح الدين بالنسبة لهم طاقة ديناميكية للتغيير، ويري المواطن فيه عقائد وشعائر، وأيضا سندا إنسانيا وروحيا لتغيير واقع اجتماعي، والتطلع إلى مجتمع أفضل. هذه المسألة ليست هينة، لكنها سوف تحتاج إلي تغيير ذهنية عالم الدين أو رجل الدين القابع في المؤسسة الدينية من خلال تعرضه لمؤثرات العلوم الاجتماعية الحديثة، حتى يتشكل لديه الإدراك الواعي بأهمية أن يكون الدين طاقة تحرير للإنسان من واقع إنساني معوق.

التطرف، المتطرفون، الذين ينتشرون في بقاع عديدة من العالم، يجدون حضورا عن قطاعات من المجتمع غاضبين وساخطين، يبحثون عن «المنقذ» و»المخلص»، من هنا وجد أصحاب المؤهلات العليا، خاصة من الكليات المرموقة، مكانا في جماعات التطرف، وأصبحوا زعماء لها، لكنهم بحكم محدودية إدراكهم للمجتمع، يمتلكون فقط دعوات النقد وهدم الواقع، ولا يمتلكون العقل السياسي، والإدارة، والقدرة على بناء مجتمع حديث، وعادة ما تقود كل تجارب التطرف إذا تملكت زمام الأمور إلى كوارث بشرية، ورغم ذلك يظل للمتطرف حضور وتأثير عند قطاعات من المجتمع، لا تسعى إلى تفسير ديني مختلف، بقدر ما تتطلع إلى دور مختلف للدين ذاته في المجتمع، تستلهم منه قيم الحرية والتغيير، ويصبح التغيير الديني بالنسبة لها عملية مستمرة من التطور في اتجاه الرشادة والعقلانية.