&سليم نصار

يوم الأربعاء الموافق 4 نيسان (ابريل) الماضي، أرسل الصحافي والمخرج اندريه فليتشيك رسالته الروتينية لقراء نشرته التي تحمل عادة توقعاته لمستقبل الأحداث الجارية. وبعد أن قدم تغطية سريعة لانتصار قوات بشار الأسد وفلاديمير بوتين في سورية، حذر من خطورة حشر «داعش» في الزاوية، وتساءل عن المكان الأنسب لانسحاب عناصر «الدولة الإسلامية»!

وبعد أن اختار فليتشيك لبنان كملجأ أخير، زعم أن القوى التابعة لـ «داعش» لا تضطر الى الهرب أو الانتقال من العراق وسورية بسبب وجودها المضلِّل تحت سماء الوطن الذي اختارته محطتها الأخيرة!

ويزعم هذا الصحافي أن عناصر «داعش» منتشرة من سهل البقاع حتى المخيمات المحيطة ببيروت وصيدا وطرابلس. ولقد سهلت لغالبيتها الحرب الأهلية السورية فرصة تسلل أعداد تُقدَّر بمليون ونصف المليون نسمة. إضافة الى وجود 450 ألف لاجئ فلسطيني.

التوقعات التي أشار اليها هذا الصحافي الأجنبي في نيسان تحققت في آخر حزيران (يونيو) عندما تسلل أربعة انتحاريين الى بلدة القاع في أقصى شرق البقاع، وقتلوا خمسة مواطنين، وجرحوا خمسة عشر آخرين.

ومع أن القتيل الأول كان مسلماً في بلدة غالبية سكانها من المسيحيين، لذلك تصور المحقق أن العملية تهدف الى ضرب صيغة العيش المشترك. وبسبب تكتم الجهة المخططة لعملية فاشلة في هذا الموقع النائي، أطلق السياسيون والعسكريون اللبنانيون العنان للمخيلة بحيث فسّرها كل فريق وفق مزاجه ورؤياه:

فريق سارع الى حمل السلاح كبديل من الجيش بغرض توفير الأمن الذاتي، وذلك تحسباً لاختراقات أخرى. ولما أعلنت قيادة الجيش أنها وحدها ملزمة بحماية المواطنين، ذكـّرهم سكان القاع بالمجزرة التي افتعلتها القوات السورية سنة 1978، وذهب ضحيتها أكثر من ثلاثين مواطناً. وكانت غاية النظام السوري من وراء افتعال تلك الحادثة إشعار المسيحيين بأنهم مهددون، وبأن القوات السورية هي ضمانتهم الأمنية شرط المبادرة الى دعوتها.

ويُستدَل من وقائع التحقيق أن طلال مقلد سأل في العتمة عمَّنْ يتحرك في الحديقة، فجاءه الجواب: «نحن من مخابرات الجيش اللبناني». واعترض على الادعاء الكاذب بالقول: «أنتم غرباء. لأن لهجتكم ليست لبنانية!». وشكـّل جواب طلال مقلد المدخل لتوسيع التحقيقات على طول الحدود اللبنانية المتاخمة لسورية، فإذا بحصيلة المخالفات تتعدى كل التوقعات.

ففي منطقة عكار دهمت وحدات الجيش مخيماً للنازحين السوريين، أوقفت على أطرافه 124 سورياً دخلوا الأراضي اللبنانية بصورة غير شرعية. وضبطت معهم 44 دراجة نارية من دون أوراق قانونية.

وعلى أطراف زحلة ضبطت في ذلك اليوم 12 سورياً يتجولون داخل الأراضي اللبنانية بصورة غير شرعية. وضبطت معهم ثلاث دراجات نارية من دون أوراق قانونية، وكمية من حشيشة الكيف.

ومن الأوصاف التصويرية التي كان الإمام المغيَّب موسى الصدر يطلقها على لبنان قوله: «هذا البلد المُستباح... المشرّع الأبواب». وربما ظل هذا الوصف أفضل صورة رمزية يعبر اللبنانيون بواسطتها عن حدودهم المشرّعة على الجارتين، الصديقة والعدوة.

بقي السؤال المتعلق بتوقيت عملية القاع، وما إذا كان تزامنها مع وقوع عمليات أخرى تبنّاها تنظيم «داعش» يشير الى محاولة إنقاذ مستقبله من الانحدار المتواصل.

وقد ظهر هذا الانحدار جليـّاً في عدة مظاهر أبرزها ضمور حجم دولته بنسبة 47 في المئة من أراضيه في العراق، وعشرين في المئة من أراضيه في سورية. وكان من الطبيعي أن يستتبع هذا التحول انخفاضاً في عدد المقاتلين من 33 ألف انتحاري الى حوالى 18 ألفاً فقط. كذلك قلصت الغارات الاميركية المتواصلة من عائدات النفط بحيث انتهت الى 150 مليون دولار سنوياً.

يقول المحللون أن الجرائم الجماعية التي ارتكبها تنظيم «داعش»، في القاع وبغداد ومطار إسطنبول وبنغلادش والسعودية، لم تكن أكثر من ردود فعل غاضبة حيال خسارة الأرض والموقع الاستراتيجي المميز في الفلوجة. إضافة الى خسارة الأرض والعناصر البشرية، فإن الغارات الجوية دمرت حوالى 260 آلية، وقتلت 150 عنصراً أثناء محاولتهم الفرار من الفلوجة.

وعندما احتفل رئيس وزراء العراق حيدر العبادي بالنصر، أعلن أن الخطة العسكرية المقبلة تستهدف تحرير مدينة الموصل. أي المدينة الأساسية التي انطلق منها أبو بكر البغدادي ليعلن دولة «الخلافة».

كل هذه المتغيرات تعتبرها قيادة «داعش» مقدمة لاستعادة الأرض التي أعلنت فوقها كياناً له حدود مرسومة، بعكس منظمة «القاعدة» التي تفتقر الى حيازة أرض معينة لعناصرها.

وفي تسجيل صوتي أعلن محمد العدناني، الناطق باسم التنظيم والمشرف على العمليات الخارجية، أن البغدادي سيضطر الى حل نظام الدولة والعودة الى حرب العصابات ضد أعدائه أينما كانوا. وهذا يعني، وفق مفهومه، إحياء نظام الخلايا السرية في بريطانيا وألمانيا وايطاليا، على أن تتم الاستعانة بمنظمي هجمات باريس وبروكسيل. وفي ضوء الاستراتيجية الجديدة يُصار الى التركيز على نشاط عشرين ألف مقاتل يرفعون راية التنظيم في ليبيا ومصر وأفغانستان وباكستان ونيجيريا.

وتشير بعض التحاليل الى العلاقة الوثيقة بين توقيت عمليتي إسطنبول والقاع، على اعتبار أنهما نابعتان من الضائقة الأمنية التي يمر بها «داعش» في أكثر من مكان. لذلك قام بعمليتَيْن بعيدتين في تركيا ولبنان من أجل تخفيف الضغط عليه في سورية والعراق.

الصحف الأوروبية والعربية ألمحت مراراً الى انتقام «داعش» من تركيا التي لعبت دوراً أساسياً في قيام التنظيم. وكانت المساعدة التركية له تتم بطرق ملتوية تشمل الدعم المادي لشراء النفط المهرَّب، وتزوير الدولارات الاميركية، وتهريب قوافل الأسلحة والسيارات اليابانية، وإرشاد المقاتلين الى الممرات المفتوحة الى سورية، بهدف تسهيل تسلل المتطوعين القادمين من الخارج.

وكان وزير خارجية بريطانيا السابق، فيليب هاموند، قال لصحيفة «دايلي تلغراف» أن بلاده تمكنت من منع 600 مواطن من التوجه الى تركيا للانضمام الى التنظيم الجديد. ولكنه اعترف بأن 800 آخرين تمكنوا من الوصول الى سورية عبر تركيا.

وبسبب تغيير موقف رجب طيب اردوغان، قرر «الخليفة» البغدادي التعامل مع النظام التركي على أنه كافر. ومعنى هذا أن كل وسائل إسقاطه أصبحت مسموحة، تماماً مثلما استخدم خالد الاسلامبولي (الإخوان المسلمين) هذا المنطق لقتل الرئيس أنور السادات.

المفاجأة التي أطلقها اردوغان خلال حفلة إفطار يوم الأحد الماضي أثارت بعض التكهنات حول غايته من منح الجنسية التركية لمَنْ يرغب من مليونين وسبعمئة ألف نازح سوري. وقال في هذا السياق: «أنتم إخواننا وأخواتنا. لم تبتعدوا عن وطنكم، وإنما عن منازلكم فقط، لأن تركيا هي أيضاً وطنكم».

وعلى الفور اتهمه معارضوه بأنه يريد تسجيل مزيد من الناخبين في حال نجح في تعديل الدستور وتحويل بلاده الى نظام رئاسي، إضافة الى العامل الانتخابي، إلا أن نشر هذه الأعداد من المجنسين السوريين على طول الحدود مع سورية يؤمن له المنطقة الآمنة التي طالب بها سابقاً. أي قيام رقعة جغرافية تمتد الى عمق عشرة كيلومترات من حدود بلاده، وتشمل منطقة أعزاز في ريف حلب الشمالي. ويرى اردوغان في وجود هذا الحائط البشري سياجاً واقياً يحمي تركيا من هجمات الأكراد و «داعش».

وقد تركت مبادرة اردوغان ردود فعل غاضبة في لبنان والأردن، خوفاً من أن تتحول الى مشروع حل للنازحين في البلدين. وربما لمس البطريرك الماروني بشارة الراعي هذا المنحى السياسي أثناء زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، الأمر الذي دعاه الى إعلان رفضه ورفض الدولة اللبنانية لهذا الخيار.

بقي السؤال المتعلق بأمن لبنان، وما إذا كانت عملية القاع ستتكرر في وقت آخر.. وموقع آخر؟!

الجواب عن هذا السؤال الصعب يمر عبر التصريحات التي يدلي بها قائد الجيش العماد جان قهوجي، الذي يفاجئ المواطنين بين حين وآخر باكتشاف عملية سارع الجيش الى إحباطها. هذا الاكتشاف «الغامض» مرده الى معلومات ترِد من استخبارات أجنبية، ومن الولايات المتحدة بالذات، حول احتمال وقوع عملية ما في مكان ما. وهذه المعلومات هي حصيلة التنصّت على كل الهواتف، وكل المكالمات الداخلة الى لبنان والخارجة منه. وهذا لا يعني بالطبع أن واشنطن حريصة على استقرار لبنان، بقدر ما يعني أن الرئيس باراك اوباما حذر اسرائيل من افتعال حادثة تبرر تورطها في ضرب لبنان. لذلك جاءت عمليات التنصت الأميركي كجزء من المراقبة الدائمة.

والمؤسف أن «داعش» يحذر عناصره من استخدام الهاتف، قبل تنفيذ العمليات، وبعدها...