&دبي: هاني نسيره


لم تكن حوادث الرابع من يوليو (تموز)، واستهداف المصلين بالقرب من مسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، في المدينة المنورة، وفي مساجد جدة والقطيف، عشية العيد الذي ينتظره الصائمون، إلا عبورا وتوحيدا بين أبناء الطوائف والوطن والدولة، وغير دليل بالدم على الهوة الشاسعة والمفاصلة الواسعة بين الإرهاب والإسلام وبين السعودية وبين الإرهابيين.

هكذا تعاني وتكافح السعودية، في القلب من العالم، ضد ويلات الإرهاب وجرائمه، وتقدم كل يوم الأدلة تلو الأدلة بدماء الشهداء والأبناء على وقوفها، والعداء الذي لا يلين بينها وبين هذا الاستهداف المتوحش لأمنها وأمانها، المبذول من قبل جماعات تناسلت فيها عداوتها.

وكانت السعودية العدو الأول الأكثر استهدافا في كتابات وخطب أسامة بن لادن، بينما كان يستثني إيران ويوصي بعدم استهدافها؛ إذ كانت السعودية هدفه الأول زمانا ورؤية دائما، منذ أن أسس أول فروع «القاعدة» فيها سنة 2003.

استهداف المساجد والبيع والصلوات استراتيجية توسع فيها تنظيم داعش سعوديا، بشكل واضح في السنوات الأخيرة. ولا تكشف هذه الاستراتيجية المتطرفة إلا عن أزمة هذا التنظيم، وهربه من اليقظة الأمنية والمجتمعية، وأن حربه على العالم أجمع، خصوصا على الدولة التي تصر على إبادته.

جاءت التفجيرات الأخيرة استجابة معتادة من بعض موتوريه لتراث التطرف وأدبياته، التي تجعل السعودية في مرتبة «العدو الأول» قبل سائر دول المنطقة، وقبل غيرها من نظم ودول المنطقة، التي يكفر هؤلاء المملكة لرفضها استهدافهم ومشاركتها في التحالف الدولي للحرب على الإرهاب، وقمعها واستراتيجياتها الصلبة عبر العمليات الأمنية والاستباقية. وكذلك استراتيجياتها الناعمة، مثل برنامج ومركز المناصحة وحملة السكينة، في وأد بذوره الخبيثة على أرض الحرمين، وإجبار أقوى فروع «القاعدة» على الخروج منها، وإنهاء عملياته ووجوده بها عام 2005.

كما نجحت الرياض في مايو (أيار) من العام الحالي في القضاء على خلايا الاتصال والتنسيق بين عناصر «داعش» في المنطقة، وهي خلية «قزعان العتيبي» الذي مثل حلقة الوصل في عمليات «داعش» ضد المملكة خلال العامين الماضيين، وقادت جهدا دوليا في الدعوة للحرب على الإرهاب، واجتثاث روافده السياسية والثقافية بعد زلزال الانتفاضات العربية عام 2011.

وربما نظرا لهذه الاستراتيجيات الأمنية والمتكاملة من الحكومة السعودية، كان لجوء عناصر تنظيم داعش المتصاعد مؤخرا للعمليات الانتحارية في المساجد والحسينيات خلال عملياتها الخمس في مساجد القطيف والدمام والدالوة خلال العام الماضي، ومحاولة لتوظيف الورقة الطائفية في تأجيج كراهيتها، كما كان في تفجير مسجد علي بن أبي طالب في القديح بمحافظة القطيف في 21 من مايو، أو في المحاولة الفاشلة لتفجير مسجد العنود في الشهر نفسه، التي راح ضحيتها ثلاثة من الشهداء مع الانتحاري نفسه، وهذه أمثلة وليست حصرا لهذه العمليات.

استهداف المساجد والبيع والصلوات استراتيجية توسع فيها «داعش» سعوديا، بشكل واضح في السنوات الأخيرة. وذلك بعد أن بدأتها فروع تنظيم القاعدة في كل من العراق ومصر، التي استهدفت كنيسة بشارة النجاة سنة 2010، ومزارات الشيعة وكنيسة القديسين في مصر وتونس وغيرها، وبلغت قمة توحشها باستهداف المسجد النبوي نفسه في الحادث الأخير.

وتكشف هذه الاستراتيجية عن أزمة هذا التنظيم، وهربه من اليقظة الأمنية والمجتمعية، كما يكشفها توجه عناصره لاستهداف الأقارب، ممن تؤمن أواصرهم، في عمليات متعددة كان آخرها استهداف توأم مراهق لوالده ووالدته في الرابع والعشرين من يونيو (حزيران) الماضي، وكذلك محاولة ترهيب العلماء والدعاة والمملكة عبر بيانات تهديد وتكفير لهم، ونشرته «داعش» في مجلتها «دابق» في يناير (كانون الثاني) سنة 2016.

شهدت السعودية بين مايو 2015 ومايو 2016 فقط نحو ثلاثين عملية إرهابية، أي بمعدل عملية كل 12 يوما. وشهدت منذ استهداف أسامة بن لادن و«القاعدة» لها وانطلاق عملياتهما ضدها في مارس (آذار) سنة 2003 وحتى العام الماضي فقط ما يقارب (124 عملية إرهابية) راح ضحيتها عشرات من المدنيين ورجال الأمن، وأصيب مئات آخرون.

وبين مارس 2003 و2011 شهدت السعودية نحو 98 عملية إرهابية، راح ضحيتها أكثر من 90 شخصا من المدنيين وأصيب من 608 آخرين، وقتل فيها نحو 65 شخصا من رجال الأمن وما يربو على 360 آخرين من رجال الأمن. وتعرضت السعودية ما بين مايو 2015 ومايو 2016 لنحو 30 عملية إرهابية بمعدل عملية كل 12 يوما، وعملية في 24 يونيو الماضي قتل فيها شقيقان متطرفان والدتهما.

ووفق تصريحات رسمية، بلغ عدد المقاتلين السعوديين في سوريا والعراق نحو 3 آلاف مقاتل عاد منهم نحو 760 مسلحا، خلال العام الأخير، ويلاحظ انخفاض معدل الانجذاب للتطرف في الآونة الأخيرة.

كما شهد عام 2014 عددا من عناصر «داعش» يقطعون جوازات سفرهم الصادرة عن السعودية، متنكرين لوطنهم وأصولهم ومواطنيهم، وكان في مقدمتهم عثمان آل نازح العسيري أحد عناصر «داعش» المقتول في يناير من العام الماضي.

إن القطع والمفاصلة بين الإرهاب والسعودية دلائله بينة، تأتي دما ينهمر في أعظم الأماكن المقدسة وأشرف البقاع الإسلامية، كما تأتي كفرا وتكفيرا للوطن والوطنية والانتماء إليها، كما تزخر بها أدبيات التنظيم القديمة والجديدة باستمرار، كما سنوضح في الجزء التالي.

إن استقراء بسيطا لخطابات قائد وزعيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن يعلمنا أن السعودية تحتل المرتبة الأولى في تصورات العدو عنده، ويأتي الآخرون بعدها، كما كانت الوحيدة التي خصها منظرو «القاعدة» و«داعش» بكتابات مستقلة لتكفيرها، كما سنوضح.

فمنذ فترة، توالي مؤسسة الغرباء، إحدى الأذرع الإعلامية لـ«داعش»، رسالة صغيرة للمدعو أبو أسامة الغريب بعنوان: «هل مكة دار كفر؟» التي يلح فيها كاتبها المتطرف على اعتبار مكة والمدينة، أقدس الأماكن عند المسلمين قاطبة، داري كفر! متابعا في ذلك ما سبق أن ما سطره شيخه السلفي المتشدد أبو محمد المقدسي في كتابه «الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية» وفي رسالته المعروفة بـ«الرسالة الثلاثينية في التحذير من الغلو في التكفير» وقد وضع الأخيرة في التحذير من التكفير، ولكنه أكد - وفقط - على ما سبق أن سطره في كتابه الأول على كفر الدولة والدار السعودية.

لم يكن استناد المتطرفين، الغريب أو أستاذه السابق المقدسي في كواشفه غير الجلية، لغير استنادات هشة على العلاقة بالغرب وعلاقة السعودية التي تطبق الشريعة بالنظم العربية الأخرى، التي تراها «القاعدة» كما تراها «داعش» نظما مرتدة، ورفض تكفيرها أو استهدافها من المتطرفين، واحتفاظها بعلاقات دبلوماسية وتعايشية مع العالم من المقيمين فيها أو من المبعوثين عندها، فضلا عن تكفيرها بسبب سنها لقوانين وتشريعات تنظم الشأن العام. شأن القانون التجاري أو قانون البنوك أو غيرها من القوانين، رغم إقرار الكاتبين بأنها تطبق الشريعة وتخدم الدين، وهذا هو الخطر الذي يرونه منها.

رغم كل ما سبق، تتكرر، بين حين وآخر، اتهامات عشوائية وأحيانا مغرضة، شارك فيها كل من إعلام نظام الولي الفقيه، وإعلام بشار الأسد بشكل ما، مفادها محاولة الربط بين المملكة التي يكفرها الإرهابيون ويعتبرونها العدو الأول لهم، وبين الإرهاب، أو اتهامات عشوائية تحمّل التراث الحديثي، والحنبلي خاصة، في القرن السادس عند ابن تيمية (توفي 728 هجرية) وتلامذته، ومن تأثروا به في الدولة السعودية الأولى أواخر القرن الثامن عشر وحتى الآن، المسؤولية عن التأسيس للإرهاب ومنطقه، رغم الحرب الشعواء التي شنتها السلفية على كل علماء هذا التيار، من علماء المؤسسة الدينية السعودية إلى الألباني وصولا للأزهر ذاته، بل وسائر تيارات التجديد الإسلامي المخالفة لهم.

وسار بعض المبتسرين للنصوص بعشوائيتهم زاعمين، أن ما يفعله الإرهابيون والانتحاريون، رغم إقرار الجميع بأن العمليات الانتحارية بدعة محدثة لم يعرفها الأقدمون، هو نتاج له! في اجتزاءات واقتطاعات ونتف خطابية تتجاهل التعارض القائم بين أنصار توحيد الحاكمية، التي لم ترد في اعتقاد السلف كذلك وصكها المودودي ثم نقلها سيد قطب، وبين تراث أهل الحديث الذي عرف عنهم أنهم كانوا جماعة طاعة، وليس جماعة خروج، منذ ظهورهم الأول في القرن الثاني الهجري مرورا بفترة ابن تيمية في القرن السادس التي كان فيها مواطنا للدولة المملوكية في مصر والشام، بمرجعيتها الحنفية والأشعرية والصوفية، غير داعية للخروج، الذي رغم كثرة مؤلفاته وفتاواه، لم يخطوا رسالة واحدة في مسائل الإمامة أو الآداب السلطانية. وإن كتب وتلميذه ابن القيم في مسألة السياسة الشرعية والطرق الحكمية، وهو ما يتعلق بتنظيم المجتمع والحسبة وما شابه من أمور زمنية.

بالعودة إلى البداية، نذكر أن منظري «القاعدة» و«داعش» كتبوا «مكة دار كفر» وكتبوا عن تكفير بلاد الحرمين، بينما رأى ابن تيمية في ماردين التي كان يحكمها التتر، الذين تحولوا للتشيع، ولم يحكموا الشريعة ولكن حكموا ياسق جنكيز خان أنها «دار مركبة» وليست دار كفر، فهي برأيه تجمع وصف الإسلام ووصف الكفر لاحتكامها لتراث جنكيز خان الذي لم يكن على دين سماوي. وكتب ابن تيمية نفسه الكثير من الفتاوى لأهلها عرفت بـ«الفتاوى الماردينية» دون إلحاح منه على تكفير أو إخراج أو انتحار!

إن هذا التاريخ الأسود الثقيل من حرب الإرهاب على المملكة العربية السعودية وبلاد الحرمين، واستهدافها المصلين فيه وفي سائر مساجد المسلمين، يكشف زيف مثل هذه الاتهامات وخطلها.

كما يؤكد على المفاصلة والقطيعة العميقة بين التطرف العنيف المعاصر، تنظيرا وتنظيما، وبين تراث المسلمين ودولهم، فلا يقدس ما يقدسون زمانا (رمضان) أو مكانا (المسجد النبوي أو أي مسجد) أو إنسان (في توسعهم في بدعة العمليات الانتحارية) وأن حربهم على العالم أجمع، وفي القلب منه هذه الدولة التي تحاربه، وتستمر وتصر على حربه ودفع شره.
&

&