علي سعد الموسى

جلست واجماً، بارداً، لبضع دقائق، وأنا أشاهد لوحة مطعم المأكولات السريعة العالمي "برجر كنج" ما قبل الأمس في مسقط رأسي بسراة عبيدة. سنبدأ دهشة الذهول من البداية: تركت هذه البلدة، وللأبد، نهار استلامي شهادة الثانوية العامة، ولم يكن بها أبداً حتى كشك يقدم الشاي والساندويتش. لم يكن على أرفف بقالاتها المحدودة المعدودة صحيفة واحدة. بعدها طفت قارات الدنيا وزرت ولله الحمد فجاج الأرض الواسعة، وقد أعترف اليوم:

كنت من الداخل أشعر بنوبة غضب على ذلك الجفاف الطفولي الذي سرق من حياتي الأولى 18 سنة. أتذكر أنني أكلت أول فطيرة "هامبورجر" ليلة وصولي إلى شيكاغو مع صديق من أبناء قريتي، وكان هناك في رحلة علاجية. لم يكن بمسقط رأسي حتى صيدلية تبيع حبة بنادول. من أمام بوابة المطعم العالمي، هاتفت صديقاً لأنقل له رحلة التغيير وأرسلت له صورة الزبائن من شباب يلبس معظمهم "الجينز" فرد فوراً: إنه جشع الرأسمالية التي لا تبيعنا مجرد الفطيرة بل أيضاً ثقافتها في قلب "الشطيرة". قلت له: لا.. إنه ضغط العولمة وحرية انتقال المعلومة.

قبل أكثر من عقد من الزمن قابلت مع مجموعة من الكتاب، الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان في البهو الزجاجي لفندق الفيصلية. وفي الأفق الواسع أمامنا بمدينة الرياض يبدو حرف (M) مرتفعاً فوق ماركة "مكدونالدز". كان فريدمان يشير إليه وهو يقول: لقد أشرت في كتاب "اللكزس وشجرة الزيتون" إلى أن هذا الحرف الكبير هو رمز العولمة، وحيثما ارتفع فلك أن تعي أن البلدة تلبس هذا المصطلح.

قصة أخرى من أحزان ذلك الجفاف الطفولي: عرفت ريال الفسحة المدرسية طالباً في الأول المتوسطة: ومكتفياً بخبز أمي، كنت أشتري به يومها علبتين زجاجيتين من مشروب "الكولا" وأشربهما في ظرف دقيقتين. لماذا؟ لأنه شعور الجسد الجارف إلى الحاجة الكبرى إلى "السكريات" في قرية عاشت كل حياتها على "الملح".

وبكل تأكيد عشت كل طفولتي على هذا الملح، جسداً وعقلاً وقراءة، ولولا حنان أبي وحبي لأمي لكتبت في مذكراتي أنني ولدت في السجن وخرجت منه نهار استلامي شهادة الثانوية العامة. سأكون شجاعاً إن قلت ضد التيار: شكراً للعولمة، لا لأنها أخذتني إلى أرقى الجامعات وفتحت أمامي كل معارف الأرض بضغطة إلكترون، بل لأنها لم تترك ولدي خلف محراث أبيه بطفولة جافة. أعطته كل الخيارات فلم تتركه على خياري الوحيد: نبتة ملح.
&