&هوامش الأسفار ولطائف الأخبار: «النظرة الأخيرة على دمشق»
&

سمير عطا الله
&
المقهى جزء من حياة باريس، للجميع. وعلى نحو ما، ليس خيار الباريسيين، بل قضاءهم. وقد اشتهرت المدينة بأن كبار كتّابها وفلاسفتها وفنانيها كانوا يقضون معظم النهار وسحابة من الليل في مقاهي السان جيرمان، حيث يعملون ويأكلون ويجادلون ويستقبلون زوارهم. والسبب عامة، كان ضيق الغرف الصغيرة التي يقطنون فيها. ففي المقهى كانوا يعثرون على الفسحة والضوء والدفء. وكتب محمد الماغوط مرة أنه انتسب إلى الحزب السوري القومي وليس إلى الحزب الشيوعي، لأن مقر الأول كان فيه مدفأة.


مقهاي الباريسي، عام 1966، كان «السان ميشال»، قبالة حديقة اللوكسمبور، في الحي اللاتيني. كان ثمن فنجان القهوة فرنكًا أو اثنين. وكان النادل الرئيسي، ماريوس، من بقايا الحقبة الجميلة. وكان معظم الزبائن من الطلاب والسياح، كما كان فيه ركن خاص لثلاثة رجال من أحجام غاباتية، الكل يعرفون أنهم مخابرات عربية، لكن أحدًا لم يهتم لمعرفة من منها.
كان بين رفاق المقهى في المساء علي صالح السعدي، الوزير العراقي السابق، وصاحب أشهر برقية في الذاكرة العربية: اسحقوهم حتى العظم.
عندما انتسبت إلى الحلقة، كنت أعتقد أن السعدي مفزع. لكنني اكتشفت سريعًا أنه رجل محطّم لم يعد يريد شيئًا سوى أن يكون قريبًا من عائلته. ومع الأيام، أصبحت آمل في أن أكتب ذات يوم، قصة الأحلام القصيرة والكوابيس الطويلة في العالم العربي، لكنني شعرت بعقدة ذنب عميقة وأبعدت الفكرة: هل هذا الرجل الحزين صديق أم موضوع؟ بعدها بسنوات جاء السعدي إلى بيروت بعدما زالت مخاوفه من الرفاق. وعثر لنفسه على مقعد دائم في مقهى الهورس شو. لكن أنا كان علي أن أداوم في مكتبي القريب، كما أنني كنت قد استقلت كليًا من المقهى العربي.


بالعكس، أصبح رمزًا للندم وضياع الوقت. بل صار يحزنني أن أرى فيه رجالاً كبارًا يضيِّعون فيه الأعمار. وباستثناء لقاءات متباعدة مع أحباء، نفرت من صورة المقهى.. ففي باريس والقاهرة وبيروت، كنت أرى حكام الأمس لاجئي اليوم. وفي «الدولتشي فيتا» على الروشة، كان المنفى العربي يبدو قاسيًا عندما ترى الزعيم السوري أكرم الحوراني شبه وحيد إلا من جلساء عابرين. وفي جنيف، كان المقهى أكثر قسوة، إذ ترى قادة الجزائر السابقين، من حسين آية أحمد إلى أحمد بو طالب، لا يملكون، أو لا يريدون حق العودة.
جميعهم كانت غرفهم ضيقة ويأتون المقهى لفسحة المكان وضوء الرصيف ورؤية الناس الذين كانوا يتجمعون حولهم بالآلاف. وقد وضع أكرم الحوراني مذكرات ضخمة لم يبق في ذاكرتي منها سوى مدخلها. وفيه يروي أنه عندما اقتيد إلى السجن ويداه كانتا مصفدتين، قال لسجّانه: «هل تؤدي لي خدمة العمر، قبل أن تضعني في الزنزانة؟ أريد أن أصعد إلى سطح السجن لألقي النظرة الأخيرة على دمشق».
إلى اللقاء..
&

&