&عبدالحق عزوزي

إننا نعيش أخطر أزمة تعصف بتاريخ الوطن العربي والإسلامي، أزمة وقودها شباب لم نحسن تربيتهم، ولم نفلح في فتح أفئدتهم وأبصارهم على الوسطية والتسامح وأصول الإسلام الصحيح الذي يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يمزق، يحيي ولا يميت، يعطي ولا يسلب، ينير الطرقات ولا يظلمها. هؤلاء الشباب ارتموا في أحضان التطرف والكراهية، وحب الموت على الحياة، وأصبحوا دمى في يد شياطين الإنس، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، لينفذوا عمليات انتحارية أظن أن حتى شياطين الجن ينفرون منها وينكصون على أعقابهم عند وقوعها، لأنها لم تنادِ بها ولا ديانة واحدة ولا يستسيغها العقل السليم، ولا يمكن أن تكون أداة من أدوات بناء الحضارة، ولا قاعدة من قواعد العيش المشترك.

عندما تسافر اليوم إلى بقاع العالم الغربي، يواجهك الزملاء في الجامعة، ورجالات الدولة بفيض من الأسئلة المشروعة عن حقيقة ما يقع، وعن واقع التعاليم التي منها يرتوي التكفيريون الضالون والمضلون الذين فسدوا وأفسدوا، وعتوا في الأرض فساداً. وتبدأ أنت تجيبهم بأجوبة دينية وتاريخية وحضارية واستراتيجية، لتبرئ الإسلام والمسلمين من خزيهم، ولكن سرعان ما يطلبون منك حلاً لتلك العدائية الواحدة والثقافة المتشابهة التي تجمع أهل الضلالة من بلدان عربية مختلفة، وتدفعهم لتفجير أنفسهم في فرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة، وفي العراق وتركيا والسعودية وبنجلاديش وغيرها.... الروائي الأميركي والصحافي في جريدة «واشنطن بوست»، ديفيد أغناتيوس، في محاولة منه لإيجاد حل استراتيجي لهذا التساؤل، كتب مؤخراً أن «من شأن تلك الهجمات الوحشية في تركيا وبنجلاديش والعراق والمملكة العربية السعودية، أن تقنع الدول الإسلامية والغرب بأنهم يواجهون عدواً مشتركاً يتمثل في تلك الجماعات المتطرفة مثل «داعش»، وما هم بحاجة إليه الآن هو تشكيل بنية قيادة وتحكم مشترك، مثل تلك التي شكلتها الولايات المتحدة وبريطانيا في ديسمبر 1941، عقب صدمة بيرل هاربور الشهيرة. ولم يكن دمج الموارد العسكرية والاستخباراتية بالأمر الهين، حتى بالنسبة للشركاء طويلي الأمد في واشنطن ولندن، غير أن رئيس الوزراء البريطاني آنذاك ونستون تشرشل عرف أنه بمجرد انضمام الولايات المتحدة إلى المعركة بشكل كامل، سيكون النصر أكيداً للحلفاء في نهاية المطاف».

ومثل هذا التحليل هو الذي يمكنك أن تقرأه في أدبيات العديد من الكُتاب والمفكرين الاستراتيجيين الغربيين، وهو منظور مقبول إذا نظر إليه الغربي من زاوية انتمائه الغربي، ولكنه خاطئ ومضل إذا نظر إليه من زاويتنا نحن، بل حتى من الزاوية العقلانية المحضة. فإعادة الوقائع التاريخية وإسقاطها على مجتمعات مغايرة لا يجعلها تعطي النتائج نفسها، ونتذكر جميعاً ما كان الرئيس بوش الابن ومحيطه من المحافظين الجدد يقولون إن إسقاط نظام صدام حسين ووضع العراق الفوري على سكة الديمقراطية سيحدث زلزالاً مدوياً في كل المنطقة، حيث ستتهاوى بعض أنظمتها كما تتهاوى أوراق الخريف، وسيستنشق الجميع هواء جديداً، وستجري دماء جديدة في شرايين المؤسسات والأجهزة!

وقد مر الآن أزيد من عقد على سقوط نظام صدام، ولم يعرف العراق إلا مصائب متوالية، وتطاحنات مسترسلة، وعمليات تجييش الطوائف وإدخال جراثيم التدخلات الأجنبية فيه، ما ساعد ويساعد على تفاقم خطر المجموعات الإرهابية التكفيرية مثل «داعش».. وبالمثل، فلا دولة واحدة تأثر نظامها بسقوط نظام صدام... ناهيك على أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، وبمشاركة أزيد من أربعين دولة، تستطيع مجتمعة إزالة قارة من الوجود، لم يتمكن إلى حد الساعة من دحر بضعة آلاف من عناصر تنظيم «داعش»... وبكل تأكيد، فسيقضى على «داعش» طال الزمن أم قصر، ولكن هل سيقضى على الفكر الذي ولد ويولد «داعش»؟ هذا هو السؤال.

إن الحل يكمن فينا نحن العرب والمسلمين. لأننا بدأنا نخرج من صفحات التاريخ. إنه حل يتطلب منا التحرك، ومنذ هذه اللحظة، لإصلاح شامل، فنحن في حاجة إلى رؤية جديدة ينظر إليها من زاوية عقلانية التنوير، والعقلانية الرشيدة والنقدية، فالأزمة شاملة تتعدى مفاهيم الأصالة والمعاصرة، والقديم والحديث، وزوايا المنهجية والإبستمولوجيا والإيديولوجيا، إنها عطالة العقل العربي الذي ولد أناساً طوعت لهم أنفسهم تفجير أنفسهم في كل مكان، بل وحتى في المدينة المنورة، في أقدس البقاع عند المسلمين. إنه علاج لا ينفع معه طبيب الذات الفردية أو طبيب الذات الجماعية، وإنما طبيب كلي يصف دواء شاملاً بعد تعزيزه بعلاج تشخيصي برهاني، يتجه إلى عوامل السياسة والثقافة والوعي والإدراك المجتمعي، والتراث والحضارة والمؤسسات، في إطار تداوٍ بخليط من الإيديولوجية والمعرفة، من التراث والحداثة، من الماضي والمستقبل. إنها العاصفة الفكرية في تأثيرها الإيجابي على العقل، وهو إصلاح الوجود التاريخي للإنسان العربي باعتباره موجوداً متأزماً.