&طيب تيزيني

تمر الآن في العالم حالة قد تكون حقاً فريدة، فنحن نرى ونسمع ونقرأ أن «الغرب» يعود إلى الصدارة في إنتاج ما كان ينتجه، قبل عقود، من نماذج «غربية» من «داعش»! نقول ذلك، ونحن نعلم أن هذه المقارنة التاريخية تفتقد كثيراً أو قليلاً من حيثيات التماهي بين النموذجين، نظراً إلى أن الواحد منهما لابد أن يختلف عن الآخر ماهوياً بقدر أو بآخر. ومع ذلك فإن نظرية النمذجة تخولنا التحدث عن تلك المقارنة التاريخية، فإذا ما أقررنا بإمكانية ذلك، فإننا نجد عناصر من المقارنة التاريخية في حقول أو أخرى من المجتمعات الغربية الصاعدة، وبين حقول أخرى من الشرق، في السابق كما في الراهن.

وقد كان الاستشراق (الغربي) هو السبيل المنسق إلى ضبط ما انتدب له العاملون في هذا الحقل: لقد «اكتشف» هؤلاء أن من لا ينتمي إليهم جغرافياً وتاريخياً وثقافياً.. إلخ، إنما هو «الأنا، أناهم».. فهو معرّف عندهم بكونه يمتلك الوعي النظري للتعريف بهم، وكذلك بمثابته هو أداة العقل، إضافة إلى كونهم هم الذين يملكون ذواتهم وذوات الآخرين ممن لا ينتمي إليهم.

لقد خرج المنتصرون إلى العالم الفسيح لـ«يبشروا» برسالتهم، وكان على رأس أولئك الذين نيطت بهم عملية التبشير تلك «رجال العصر الجديد- المستشرقون» الذين ضبطوا مهماتهم الجديدة بـ«معرفة» أولئك المقيمين في القاع من المستعمَرين وممن يقرب منهم؟ ومن ثم البدء في اكتشاف «العالم» نظرياً ومنهجياً، يداً بيد مع تحويله إلى «فائض قوة»، لذلك الاكتشاف ولما يتطلبه.

وانفتح الأمر عليهم تماماً حينما راحوا يصنفون عالمهم أو عوالمهم، فاتجهوا إلى الشرق في آسيا وإلى أميركا اللاتينية وأفريقيا، وقد بدأت إعادة بناء العالم وفق ثنائية السادة والأرقاء، يداً بيد مع إنشاء وتطوير مراكز وزوايا ينتجون فيها معارفهم الجديدة في تلك البلاد. وذلك في صيغة راحوا يكرسونها لصنع عالمين في بقعة واحدة، مستخدمين معارفهم التي تخصص في إنتاجها وتطبيقها على نحو يمعن في استعباد الفَعَلة في أشكال آخذة طريقين، المعرفة، وتوظيفها في خدمتهم. وتوالت التطورات والتغيرات في رؤوسهم كما في مواقعهم.

لقد كانت اكتشافات العالم بل العوالم مقترنة بخدمتهم وخدمة من صنعوهم، ومن وقف على رؤوسهم. ودون تفصيل يمكن ذكر النساء العاملات في باريس وروما وغيرهما من المواقع التي اكتشفوا فيها امتداداتهم من أدوات العمل في تكريس حيوات وصلت إلى الأراضي والسماوات في بقاع العالم.

فالتاريخ الحديث يقدم إلينا من باريس مثلاً وفي المراحل التي أفضت إلى «الثورة الفرنسية»، التي انطلقت عام 1789. وثمة مواد تكونت على امتداد تلك المراحل وتقدم أمثلة فاقعة في وحشيتها على ما كانت تعيشه نساء باريس العاملات. ولدينا وثائق جمة في هذا الحقل، من ذلك مثلاً ما أودعه الروائي الفرنسي فيكتور هوجو في ملحمته ذات الديمومة التاريخية «البؤساء»، حيث كانت النساء العاملات يمتن أثناء عملهن وفي الطريق إليه.

لكن ذلك كله استطاع أن يفتح مع غيره أبعاداً جديدة دلت على أن العالم مفتوح أمام البؤساء، حين يكتشفون قوتهم التاريخية والمعرفة بسيرورة المجتمعات والتاريخ! فكان صعود أحلام وآمال في تكوين عوالمهم، في العالم كله، بما في ذلك في الشرق العربي. وجدير هنا أن نذكر بعض ما جدّ في العالم: قال ماركس المنتمي إلى القرن التاسع عشر في الغرب: كلما ارتفعت قيمة الأشياء هبطت قيمة الإنسان، ويتابع تلميذ ماركس قائلاً: العولمة إنما هي الآن «السوق المطلقة»: هكذا إذن، وثمة الآن في مرحلتنا من وقف من السود في أميركا معلناً الحرب على «البيض» ذوي المرجعية الغربية الاستعمارية. ونشأ «داعش» الشرقي ليشوه الأفكار التي يزعم أن الغرب وأهله أطاحوها، ولكن خطاب التطرف والعنف ليس البديل التاريخي، وإنما البديل هو خطاب دعاة السلام والتنوير في الشرق والغرب وفي كل العالم أجمع.