&صالح الديواني

&

ما زلت أحتفظ ببعض صور صفحات المجلات التي كانت تصدر أيام خدعة الجهاد الأفغاني، تلك المرحلة المظلمة من تاريخ حياتنا الاجتماعية والسياسية والدينية، وما زلت أتألم كلما تذكرت من ذهبوا ضحية مرحلة التضليل البغيضة تلك. اليوم، أعرض في مساحتي هذه مقتطفات من الصفحة الـ44 من مجلة "الجهاد" -المحسوبة على ما سُمي "الصحوة"- في عددها 83 الصادر في أكتوبر/نوفمبر 1991.

إذ قدمت المجلة بخبث واحترافية انتهازية جرائمية، مادة تقتنص خلالها مزيد من الشباب المتحفز لتفريغ طاقاته وحيويته، وإرسالهم إلى محارق ما كان يعرف بالجهاد في أفغانستان، وهو المخطط الذي وقع في شراكه كثير ممن أعرف من الشباب، وقد ورد في هذه المقدمة -ودون الإشارة إلى مصدر ولا إلى كاتب، ولا إلى مكان- ما يلي:
"الشهداء الذين أقبلوا يلبون نداء ربهم معرضين عن كل شبهة مرتفعين عن كل شهوة، تقعد بهم إلى الأرض. الشهداء الذين لا يلتفتون إلى من خالفهم، أو خذلهم، ولا يعرفون حِلا مع أئمة الكفر سوى السيف الذي بعث به نبيهم، بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده، وحتى يكون الذل والصغار على من خالف طريقهم، مع ثلة من هؤلاء الشهداء، نعيش عسى أن تعيش أمتنا حية بذكراهم والسير على هداهم، فما أشبه الليلة بالبارحة، وكأن التاريخ يعيد نفسه وينادي "حي على الجهاد حي على الجهاد".

هذه المقدمة الديباجية، تعرف كيف تستدرج العواطف إلى معسكر خطتها، وتعرف الطريقة العاطفية التي تطغى على حياة المجتمعات العربية، الحياة الاجتماعية التي لا تعطي مساحات واسعة للعقل فيما يُعنى بالمسائل الدينية تحديدا.

وقد هدفت تلك المقدمة –الفخ- إلى تزيين الموت فيما يخدم مصلحتهم، كنوع من الجائزة، من خلال مضمون المادة التي حملت عنوان "مع الشهداء"، والتي قدمت سردا لقصص عدد من المحاربين العرب في أفغانستان، من بينها قصة (استشهاد) "عبده أحمد الماس"، الذي لقبوه في المنشور "بأبي أحمد"، ذلك الشاب كان أحد أعز الأصدقاء الذين عرفتهم في قريتي –رحمة الله عليه- وسأكتب "استشهادا" عوضا عن "مقتل"، لأن ذلك الصديق كان نبيلا في كل شيء عرفه فيه أهالي القرية، صادقا في معتقده حين ذهب لنصرة الإنسان المستضعف بأيديولوجيا دينية، وهو لا يدرك أنه سيكون حطبا لحرب لا ناقة له أو لنا فيها ولا جمل!
فقد أوهمونا أن قضيتنا في أفغانستان، وليست في فلسطين المحتلة، وقد قبل كثير من شبابنا ذلك بسذاجة على نحو ما.

جاء في متن المادة مجهولة المصدر على لسان أحمد: "أحس أني سأستشهد، ولن أعود إلى اليمن إلا إذا قام الجهاد"، وهذه العبارة أجزم أنها كاذبة حتى النخاع، فقد كان صديقنا "عبده الماس" ابنا لأم سعودية، وقد حصل على الجنسية السعودية واستخرج جواز سفر سعوديا، عبر به إلى أفغانستان كما أعلم يقينا.

ثم يسترسل الكاتب المجهول في الكذب والتدليس على القارئ قائلا: "إنها من إرهاصات النفوس المجاهدة، التي تأبى أن ترضى بغير عظائم الأمور، فقد دربت على ذلك، ولانت لاستسهال الصعب، حتى تبلغ مرادها، والشهيد عبده الماس من اليمن مولدا، ومن الجزيرة العربية سكنا، وقد جاء إلى الجهاد في رجب 1410".

والحقيقة أنه أبدع في التدليس، لكنه فشل في الحديث عن خصوصيات عبده، الذي ولد في قرية أحد المسارحة بجازان، وتربى وتعلم في مدارسها حتى أكمل الثانوية، وكان يعشق الحياة والموسيقى والرقص والألبومات العربية والعالمية، وأول من أدخلها إلى القرية، ثم توجه للدراسة الجامعية في أبها، وفيها حصل التحول الجذري فكريا له.
فقد كانت أبها في تلك الأيام، حاضنة نشطة للدعاة الصحويين على اختلافهم، فتبدلت حياة ذلك الشاب اللطيف، وفاجأنا جميعا ذات يوم بورقة علقها على باب غرفته في سكن الجامعة كتب عليها "ذهبت للجهاد في أفغانستان".

ذهب في الوقت الذي كانت أسرته ووطنه أحوج ما تكون إليه، هكذا ببساطة احترق أحد الشباب الذين تنبأ له كل من عرفه، بأنه سيكون ذا شأن كبير ومؤثر في بناء وطنه ومجتمعه، فكم من أمثال "عبده" فقدت هذه الأمة يا تُرى؟
&