&‏ عبد المنعم المشاط&


في خضم التحول الجديد إلي الدولة القومية صاحبة السيادة وذات الهوية المتميزة، يثور التساؤل حول مآل كيانات العنف الإسلامية، والتي شكلت أشباه دول وصارت تمثل تهديدًا قويًا لعدد كبير من دول الشرق الأوسط، والحقيقة أن التاريخ الإسلامي مشوب بمثل تلك الكيانات منذ الخلفاء الراشدين؛ فلنتذكر اغتيال الخليفة العادل عمر بن الخطاب، وذي النورين الخليفة عثمان بن عفان، بالإضافة إلي ما يناهز 29 آخرين من الخلفاء، لقدوصلت حدة العنف والإرهاب لتلك الكيانات إلي ضرب الكعبة المشرفة علي الأقل مرتين؛ في عام 64 هجرية بإيعاز من الخليفة يزيد بن معاوية، وعام 73 هجرية بأمر من الخليفة عبد الملك بن مروان، يضاف إلي ذلك الاعتداء عليها وإطلاق النار داخلها وترويع المصلين بها عام 1979.

ولا شك أن انتشار كيانات العنف الإسلامية منذ سبعينيات القرن الماضي يثير تساؤلات عديدة حول الأسباب الكامنة وراءها وكيفية توظيفها سياسيًا وما هي الأهداف التي تسعي إليها؛ فمن ناحية، فشل مشروع الدولة القومية في الوطن العربي عن تحقيق تكامل قومي حقيقي يَجُبّ الانتماءات المذهبية أو الدينية أو العرقية، وبدلاً من أن يؤدي إلي بناء دول مدنية عصرية ديمقراطية، أقام دولاً شمولية ونظمًا استبدادية، هذا فضلاً عن الإخفاق في حماية كيانات تلك الدول، وكان من الضروري في هذا المناخ اللجوء إلي تيار الإسلام السياسي للتعويض عن الهزائم الداخلية والخارجية. ومن جانب آخر؛ فإن المجتمعات العربية، في مجملها، عانت ولا تزال من الاستقطاب الحاد؛ إما طبقيًا وإما مهنيًا وإما اجتماعيًا، غير أن تيار الإسلام السياسي استطاع أن يخترق مظاهر الاستقطاب تلك دون مقاومة أو رشادة. وثالثًا؛ فإن القوي الخارجية التي ترتبط مصالحها بتدمير كيان الدولة القومية في الوطن العربي قدمت كافة وسائل الدعم والمساندة بما في ذلك التسليح والتدريب والتمويل لكيانات الإسلام السياسي تحت مبررات عديدة، منها مثلاً؛ دعم إنشاء القاعدة في أفغانستان لمقاومة الاتحاد السوﭬييتي السابق، ومنها كذلك تسهيل إنشاء وتسليح داعش في سوريا والعراق بحجة مقاومة النفوذ الشيعي وتحجيم الدور الإيراني في المنطقة، علي الرغم من أن إيران تقوم بتنفيذ المخططات الأمريكية والإسرائيلية في الوطن العربي، يضاف إلي ذلك أن الصراع علي السلطة السياسية في الدول العربية بين قوي متنافسة ومتناحرة مع ضعف شديد للطبقة المتوسطة والمجتمع المدني -أساس الاستقرار السياسي- يعطي قوي الإسلام السياسي فرصة أكبر من القوي الأخري، خصوصًا وهي قوي تتنافس بحرفية واضحة في هذا الشأن، وعلي الرغم من أن وصول الإخوان المسلمين إلي عرش مصر يعد تتويجًا لصراع هذه القوي علي السلطة السياسية إلا أن ذلك أوضح بجلاء ما تتسم به تلك القوي من استبداد وغباء وارتباط قوي بمخططات أجنبية ضد المصلحة الوطنية، ولهذا، أسقط الشعب المصري هذه السلطة إلي الأبد في 30 يونيه 2013.

إن التفكير فيما تؤول إليه تلك الكيانات في المستقبل يتحدد بمجموعة من المتغيرات الرئيسية التي تتعرض لها المنطقة منها؛ أولاً- اتجاه دول الجوار الجغرافي وهي إسرائيل وتركيا وإيران إلي التحالف الاستراتيجي ضد الدول العربية بما يعنيه ذلك من دعم ومساندة تلك الكيانات التي تستهدف هدم الدول العربية، خصوصًا الدول المنتجة للنفط، والتي يبدو أنها بدأت خطوات الإصلاح السياسي والمدني، وثانيًا- قيام دول الجوار والدول العربية بالتوظيف السياسي، ليس فقط للدين وإنما أيضًا للخلافات المذهبية مما يؤدي إلي تقوية تلك الكيانات والاعتقاد خطأً أنها يمكن أن تنفذ خطط واستراتيچيات تلك الدول وإغفال علاقاتها وارتباطاتها بالدول الأجنبية، وثالثًا- عدم وجود اتفاق داخل الدول العربية، فيما عدا مصر، بشأن الهوية الرئيسية لكل من تلك الدول؛ فهل هي دول عربية أم دول إسلامية أم دول شرق أوسطية، عكس تلك الكيانات التي تدعي السعي إلي إقامة هوية إسلامية للمنطقة بأكملها، ورابعًا- فإنه في الوقت الذي نجحت فيه تلك الكيانات في عملية تجنيد واستقطاب الشباب العربي من دول عربية عديدة؛ فإن عددًا كبيرًا من الدول العربية أخفقت في مخاطبة الأجيال الجديدة بلغة العصر مما أدي إلي شعورهم بالتهميش ومن ثم الإحباط وتحولهم إلي قوي سلبية داخل الدول العربية. وأخيرًا؛ فإن نمو الاتجاهات القومية المتشددة في كافة دول العالم في المستقبل يقود إلي دعم تلك الكيانات أملاً في توظيفها لتحقيق مصالح القوي الكبري في عودة السيطرة علي الوطن العربي ولو بشكل حديث.

وعلي الرغم من الجهود الضخمة والموارد الهائلة التي تنفق في محاولة احتواء وتطويق الآثار السلبية لتلك الكيانات وما يرتبط بها من قوي الإسلام السياسي؛ فإن عددًا كبيرًا من النظم السياسية في الدول العربية يلجأ إلي سياسة المهادنة لبعض تلك الكيانات أملاً في ضرب بعضها بالبعض الآخر دون أن تعي تلك النظم بأن كافة كيانات الإسلام السياسي، وهي التي تؤمن إيمانًا راسخًا باستخدام العنف والإرهاب كأداة لتحقيق مآربها السياسية، تقوم علي التنسيق فيما بينها ليس فقط بهدف الوصول إلي السلطة السياسية، وإنما أيضًا إقامة كيان أكبر وأوسع يضم شعوب المنطقة تحت سيطرتهم، وفي ضوء كل ذلك؛ فإنه من المتوقع أن تقوم تلك الكيانات بتكثيف عملياتها الإرهابية علي دول وشعوب المنطقة بقصد خلق حالة من الفوضي تهدد مصالح الدول الكبري وتكون مدعاة لتهديد الاستقرار الدولي بما يؤدي إلي الدعوة إلي تطبيق أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة علي الدول العربية أي السماح لقوات دولية باحتلال المناطق العربية حرصًا علي السلم والأمن الدوليين، إذا حدث ذلك؛ فيكون دور هذه الكيانات في فتح باب إعادة السيطرة علي الوطن العربي قد تحقق، وربما تكون هذه رسالة أخيرة إلي الدول العربية كافة وإلي الجامعة العربية بأن يتم تفعيل معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول العربية لعام 1950 درءًا لتلك المخاطر وحمايةً للأمة العربية، وتحجيمًا لتلك الكيانات.