&فـــؤاد مطـــر

هذه المحاولة الانقلابية التي حدثت في تركيا (يوم السبت 13 يوليو/ تموز 2016) سبقتها محاولات مماثلة في بعض دول المنطقة، وكانت مثلها منقوصة الوعي والأسباب الموجبة، ولنا كمثال على ذلك تلك المحاولة الانقلابية الصيفية أيضًا في السودان (الاثنين 19 يوليو 1971) التي قام بها عدد من الضباط الشيوعيين أمكنهم احتجاز رئيس البلاد جعفر نميري أربعة أيام، ثم فشل الانقلاب وغرق السودان في الإعدامات. وحتى في لبنان المحكوم بنظام ديمقراطي وفيه حرية التعبير متاحة إلى أبعد الحدود، حدثت محاولة ثم أخرى، وكان مصير الثانية مثل الأولى، مجرد نزوة أراد الضباط الذين قاموا بها استنساخ حركات انقلابية حدثت في سوريا، وكانت خاتمتها ذلك الانقلاب الذي قام به البعثي العسكري حافظ الأسد على البعث المدني، وتحت تسمية «الحركة التصحيحية». وبعد ذلك طوي السجل الانقلابي في سوريا.
معالجة الرئيس إردوغان للذي حدث في تركيا تجعلنا نستحضر الذي جرى في مصر عندما أقدم وزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي على حسْم الحالة العالقة، مستندًا في ذلك إلى خشية الناس من الأجواء التي أحدثها «المشروع الإخواني» لمصر.

وبحُسن التخاطب من جانب السيسي، حقق الرجل التفافًا شعبيًا ملحوظًا حوله بدت أهميته عند الانتخابات التي جرت لاحقًا، وتوَّجته رئيسًا للبلاد ينشر الأمل بعودة مصر ذات التنوع وإخراجها من الوهدة الاقتصادية الصعبة، وهو أمر لقي من التفهم السعودي الخليجي عمومًا ما جعل مصر تلتقط أنفاسها وتأخذ مكانها على الطريق الذي يحقق الاستقرار.
بالنسبة إلى تركيا الإردوغانية كان الوضع معكوسًا؛ حدثت الحركة الانقلابية في زمن طمأنينة الناس إلى أن بلدهم بدأ يشق طريقه نحو الأفضل: ازدهار في السياحة، ونمو لافت في مجال الصناعة، والاستثمار في تركيا يسجل خطوات نحو المرتبة الأولى، لكن في الوقت نفسه كانت هناك خشية لدى الناس من أن تنعكس تداعيات الأزمة السورية على بلدهم، بحيث تستنزف هذه الأزمة الكثير من المال والاهتمام. كما كانت هناك خشية مماثلة من أن تتحول الرعاية والاستضافة من جانب النظام «الإخوان المسلمين» إلى خصام مع مصر.
وهم عندما رأوا أن رئيسهم يستعيد تطبيع العلاقة مع إسرائيل نتنياهو، ويرمم في الوقت نفسه العلاقة مع روسيا بوتين، تساءلوا: وماذا عن العلاقة مع مصر السيسي؟ وبطبيعة الحال رأوا أنه لو كانت الخطوة الإردوغانية مثلثة الأضلاع، بمعنى إنجاز مصالحة مع مصر السيسي إلى جانب التطبيع مع إسرائيل نتنياهو والترميم مع روسيا بوتين، لكان ذلك أفضل لتركيا الدولة وأكرم لرئيس الدولة، لكن هاجس الزعامة الأبعد من تركيا هو الذي يجعل الرئيس إردوغان يرى أن الجمع «الإردوغاني»، عربًا وغير عرب، يشكل عنصرًا مهمًا في الزعامة المنشودة.. (سلطان تركيا والإخوان المسلمين).

وهنا نجد أنفسنا في ضوء الوقفة الإنقاذية من جانب أطياف شعبية، نرى أن هذا الاندفاع العفوي من جانب الناس كان من أجل ألا يتهاوى استقرار وازدهار يعيشانه، وللحقبة الإردوغانية الفضل فيه، رغم أنها حفلت بمفاجآت أوحت بجنوح رئيسهم إلى اعتماد سياسة الرأي الواحد الذي لا مجال للمناقشة فيه، وتغيير القيادات التاريخية في منأى عن التعمق في مناقشة الأوضاع والقرارات.

وعندما نقول ذلك، فإننا لا نغفل حذاقة الرئيس إردوغان في تعامُله لمجرد سماعه بحدوث الحركة الانقلابية، وكيف أنه استنسخ ما فعله السيسي. وكلاهما حوَّل الأطياف العريضة من الرأي العام إلى قوة ضاربة. في مصر، كانت هذه القوة ضد الحُكْم الذي أمسك به «الإخوان المسلمون» من القمة إلى بعض القواعد الأمنية. وفي تركيا تحوَّل المدنيون بقدرة قادر إلى قوى تصدت للجنود وكبَّلتهم. وخلال ساعات، انقلب السحر على الساحر وبات المنقلِب منقلَبًا عليه من الناس والشرطة، وليس في الشارع جماهير شعبية لكي تؤازره ولو بالهتافات.
ومما لا شك فيه أن كلام الرئيس إردوغان لمجرد ظهوره الأول ودعوته الناس إلى التجمهر في الشوارع والميادين شكَّل عنصر طمأنينة، لكن في الوقت نفسه يمكن الأخذ في الاعتبار تعب الذاكرة لدى جيليْن من الأتراك ازدحمت فيها انطباعات مؤلمة عن تاريخ بلادهم الذي حفل منذ عام 1960 بانقلابات عسكرية جعلتهم لا يهنأون بالتنفس الصحي والعيش المستقر، فضلاً عن حالة تأنيب ضمير موروثة مردها سكوت الناس عن إعدام الجيش لرئيس البلاد عدنان مندريس، وعلى نحو إعدام الجيش أيضًا في باكستان للرئيس ذو الفقار علي بوتو.

ولأن الحقبة الإردوغانية أحدثت نوعًا من المساكنة المدنية - العسكرية، فإن المشروع الانقلابي بدأ يتراجع، وكاد يصل إلى خاتمته لولا المحاولة المنقوصة بُعد النظر والتحليل الموضوعي للواقع التركي. لكن هذا لا يعني أن التراث الانقلابي التركي ذهب إلى غير رجعة، كما أن بعض مناحي أساليب الحُكم الإردوغاني داخليًا وخارجيًا تتطلب الكثير من التواضع المرفق بالقليل من أسلوب التعامل مع القضايا الشائكة ومع رفاق الصف الواحد، وأيضًا مع الخصم العنيد فتح الله غولن المقتبِس وهو في الولايات المتحدة أسلوب الإمام الخميني، الذي قاد من مقر إقامته في بلدة نوفل لو شاتو القريبة من باريس الثورة على نظام الشاه محمد رضا بهلوي.

ولقد تصرَّف غولن بحنكة عندما ندد بالحركة الانقلابية نتيجة فشل المحاولة التي فوتت عليه فرصة العودة بطلاً إلى تركيا، وربما لإبعاد شبهة العلاقة بالمحاولة، مع أن الرئيس إردوغان يصر على أن هذا المعارض المهاجر وراء الحركة، وكأنما الرضا كامل الانتشار عن إردوغان وحزبه في تركيا، ولا مجال لمحاولات انقلابية ضده.

رغم هول الصدمة، فإنها جاءت في الوقت المناسب لكي يستكمل الرئيس إردوغان المزيد من إعادة النظر وترتيب شؤون البيت التركي، علَّ الترتيب يتم في منأى عن الانتقام. وفي «الأجندة» الإردوغانية الكثير من الحالات التي يستوجب بعضها الترميم وبعضها الآخر المصالحة، وبين هذه وتلك التخفيف قدر المستَطاع من الشموخ العثماني. في «الأجندة» أيضًا الخصومة غير المبررة مع مصر وموقف تركيا المتذبذب من المحنة السورية، ولنا في تتريك السوريين الذين يكابدون شقاء النزوح والعوز المثال على ذلك.

وإذا كان الرئيس إردوغان في موضوع منْح الجنسية التركية للسوريين الهائمين على وجوههم يرى أنه يؤدي بذلك عمل خير مستندًا فيه إلى المثل التركي الشائع: «اصنع جميلاً وارْمِه في البحر فإذا تجاهله السمك فإن الله يحفظه»، فإننا لا نشاركه هذه «المكرمة»، ويكفينا تتريك الإسكندرونيين ماضيًا الذين تخلى لاحقًا عن سوريتهم رسميًا نظام الرئيس بشَّار الأسد بزيارة الدولة التي سبق أن قام بها إلى الرئيس إردوغان، وكانت فاتحة علاقة صداقة افترستها إيران الخامنئية فروسيا البوتينية، وكان الذي كان. كما أننا لا نرى في «المكرمة» المشار إليها سوى أنها تأكيد على تثبيت موقفه من المحنة السورية، وهو موقف لمصلحة تركيا وتطلعات الرئيس إردوغان.

ربُّ محاولة انقلابية فاشلة تنفع، كما الضارة، لكن فرصة النفع ربما لا يجدها شعب تركيا في حال انتهى صراع إردوغان الحاكم في تركيا وخصمه المستضَاف في أميركا فتح الله غولن على نحو ما انتهى إليه مصير قطبي العقيدة البعثية حافظ الأسد وصدام حسين.
ونقول ذلك تشبيهًا، لأن إردوغان وغولن هما حالة مماثلة (إسلامويًا) للحالة الأسدية - الصدامية (بعثيًا). وإذا أُجيز لكاتب مثل حالي أن يستحضر في معرض كثرة العِبَر، ما من شأنه أن يفيد، فإنني أدوِّن هنا قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «أيها الناس. إن أفضل الناس عبد تواضع عن رِفعة وزهِد عن غُنْية وأنصف عن قدرة وحَلِم عن قوة». كما أدون، ما دامت التأملات حول الصدمة الإردوغانية، عبارة ضمن أدبيات التراث الشعبي التركي هي: «إذا فسدت السياسة ذهب السلطان».

هدى الله النظام الإيراني في ضوء الذي بوغت به النظام الإردوغاني، إلى سواء التعقل والكف عن التدخل. وقد تكون ملامح عدم ابتهاج هذا النظام بالمحاولة الانقلابية التركية ليست حبًا بإردوغان، وإنما لأن الذي حدث في تركيا قد يحدث في إيران. وللإمام علي رضي الله عنه القول المأثور: «ما أكثر العِبَر وأقل الاعتبار».
حَفظ الله المنطقة.
&

&