&هوامش الأسفار ولطائف الأخبار: «قطار برلين»
&
سمير عطا الله
&

تباطأ القطار الليلي قليلاً قليلاً. وسمعنا صوت المكابح الفولاذية تصطك مثل نواجذ غاضبة. ثم اهتز هزة أخيرة وتوقف. وسمعنا جلبة وأصوات الأبواب تُفتح. وبدورنا فتحنا أعيننا الناعسة نستطلع سبب تعكير النوم على المتعبين. وكان جميع الركاب في المقصورة قد هدّتهم رتابة القطار وصفارته العالية من حين إلى آخر، كأنما سائقه، أو معاونه، لاحت له في الليل الحالك ظلال حركة ما فوق الخطوط الحديدية. وعادة مسافري القطار سرعة الألفة في الرحلات الطويلة. ما إن تدخل المقصورة وتضع حقيبتك (جلدية عتيقة) فوق مقعدك على الرف، حتى تلقي السلام على الباقين، الذين تأملوا بعفوية الرفيق الأخير.

قليلاً وينطلق على رسله ضاجًا وآمنًا، وقد حفظ الخطوط وأرصفة المحطات والمفترقات الخطرة، مثل طفل أبهرته جداول الحساب واعتبرها أمانته. ومن ثم يبدأ أحد الركاب جلسة المؤانسة: كم الساعة الآن؟ ويفتح آخر الكتاب الذي في يديه، فنعرف من الغلاف أن الرواية بوليسية: رسم أسود لشرطي حاذق يشهر مسدسه بخفة وجدية مطاردًا شريرًا يحاول الهروب منه. لكن الرفاق لن يتركوا صاحب الكتاب يكمل القراءة. سوف يقاطعه أحدهم من المقعد المقابل

ويقول له: «آه، أما زلت تقرأ أرسين لوبين؟». فيطوي الكتاب خجلاً وينخرط في رباعيات الحوار. والقطار يخرق الليل صافرًا، صافرته تشق العتم والحلكة. ثم يكثر الصفير عندما يقترب من أضواء المحطات والقرى والمدن. وربما اعتاد سكان البيوت القريبة صوت صفيره الغاضب، فما عاد يوقظهم من غفلة النوم. صوته ونومهم اعتادا رتابة الرحلات الطويلة.
الآن يبدأ الركاب في التعرف إلى بعضهم البعض: ما الذي يحملك من بيروت إلى برلين؟ والآخر قادم من فرنسا. والثالث عائد إلى مدينته. والرابع يتجاهل لعبة التعارف على نحو غامض: هل هو من رفاق «أرسين لوبين»؟! لا يبدو كذلك. صغير على سلك الشرطة الخفية، وهادئ الملامح، مطمئن السريرة، لا يعنيه من أين جاء جيرانه وإلى أين يذهبون. الناس جميعًا ذاهبون إلى مكان ما.

أو عائدون. أو مجرد هائمين يطاردون المدن المعقدة بحثًا عن موضوع يرسلونه إلى جريدتهم مثل المراسلين المحترفين. عالم يحدو ويعود في كل الاتجاهات.

بعد قليل من أزيز الوقوف، وصل إلى المقصورة شرطيان بلباس رسمي أخضر. توقفا عند الباب يكادان يسدانه، وتكاد قبعتاهما تطالان السقف. «جوازات»، قال أحدهما في لهجة حربية آمرة. تفحصا الوجوه وقلبا الجوازات وهما عابسان. أو تَعِبان. أو يحتقران الذين يسافرون. ثم سألا كل واحد منا: «هل لديك ما تعلن عنه؟». لديّ حقيبة جلدية اشتريتها من قرب جريدة «الحياة» في حي الغلغول. وبضعة أقلام. ودفتر ملاحظات صغير. و«عندي حنين، ما بعرف لمين» كما غنت رفيقة الدروب، سيدتي فيروز.
إلى اللقاء..&

&