&محمد طيفوري &

من يطلع على الدراسة التي صدرت منتصف شهر نيسان (أبريل) الماضي عن مركز مكافحة الإرهاب بأكاديمية ويست بوينت العسكرية الأمريكية (CTCWP) بعنوان:The Caliphate’s global workforece : An inside look at the islamic state’s foreign fighter paper trail» لثلاثة باحثين مرموقين هم: براين دودويل، دانيال ميلتون ودون راسلر؛ والتي تولى- في أيامنا هذه- مركز نماء للبحوث والدراسات نقلها إلى اللغة العربية باسم "تنظيم داعش رؤية من الداخل" ضمن سلسلة الإصدارات الإلكترونية، في شخص المترجم صلاح حيدوري ومراجعة خالد مهدي.

وقد كان هذا التقرير ثمرة مستندات- نحو 4600 سجل- تعود ملكيتها لتنظيم داعش، تُغطي الفترة الممتدة بين عامي 2013 و2014، تحصلت شبكة إخبارية عليها من طريق أحد المنشقين عن هذا التنظيم. ترسم هذه الوثائق خريطة تفصيلية للموارد البشرية الأجنبية؛ أي تركيبة المقاتلين الأجانب الذين ينحدرون من 70 بلدا في صفوف أجهزة التنظيم، بما تُقدمه من معلومات تتعلق ببلد النشأة، الجنسية، الحالة الاجتماعية، الخبرة العملية، المستوى التعليمي، المعرفة الدينية، الوظيفة القتالية، التجارب السابقة، ونقطة دخول أراضي الصراع...

أقول من يطالِع هذه الدراسة الرصينة (46 صفحة) المدعومة بجملة من الجداول (6) والخرائط والرسوم البيانية (16) عن هرم تشكيلة القوى العاملة في دواليب هياكل التنظيم: خبرة مهنية وفتُوة عمرية وتنوعا في الأصول واستعدادا للانتحار، سيندهش من هذه المقومات التي قد تدفعه إلى انتظار اليوم الموعود لمبايعة "الخليفة" المزعوم بعد الانتصار في المعركة الكبرى، ورفرفة البيارق السوداء بالجهات الأربع للعالم، وانتشار الداعشية برا وبحرا وجوا، بفضل جيوش المقاتلين ممن وهَبوا أنفسهم للخليفة، وتطوعوا لتحويل حلم دولة الخلافة إلى حقيقة.

كيف لا تراود القارئ هواجس كهذه، والسجلات تُفيد من جهة الخبرة في المعارك بأن 10 في المائة من المجندين لهم خبرة قتالية سابقة في دول من قبيل أفغانستان، ليبيا، سورية...، ولدى 12 في المائة منهم استعداد للقيام بعمليات انتحارية (انتحار أو مقاتل انغماسي) بدل القتال التقليدي المعروف. ومن جهة السيرة الذاتية للأفراد نكتشف بأن متوسط عمر هؤلاء المقاتلين حُدد في 26 - 27 سنة، وبلغت الغالبية العظمى منهم مستوى تعليمي عال؛ في تخصصات علمية دقيقة غير العلوم الدينية، وتبلغ نسبة العزوبة– غير المتزوجين- ضمنهم نحو 61 في المائة.

طبعا لا يكفي كل ذلك لتحقيق حلم يبدو من رابع المستحيلات، كما درجت العرب على القول، بالنظر إلى معطيات تتصل بتلك المستندات التي أنجزت الدراسة على ضوئها. فهي من ناحية تغطي حيزا زمنيا يعود إلى ما قبل سنتين وزيادة؛ أي قبل إعلان تنصيب الخليفة في حزيران (يونيو) 2014. ومن ناحية أخرى يلفها الغموض والالتباس فيما يتعلق بنطاقها الجغرافي، بمعنى هل لنا أن ننسِبَ هؤلاء المجندين إلى منطقة في رقعة التنظيم أم أنهم مجموع ما استقطبته في تلك الفترة من الأجانب؟

ومستحيل كذلك عند تحليل مجمل التطورات الميدانية الأخيرة؛ التي أقدم عليها تنظيم داعش- شهر رمضان المبارك- في دول عربية واسلامية، وفق النماذج التفسيرية التي يطرحها بعض الباحثين والمختصين في الحركات الراديكالية والعنيفة، من طينة الباحث الأمريكي روبرت أنطونيو باب (Robert Antohony pape) في كتابه "الموت من أجل النصر: المنطق الاستراتيجي للعمليات الانتحارية" الصادر عن مؤسسة راندم هاوس (2005). وإن كانت بعض الأقاويل تذهب عكس تلك الرؤى التفسيرية، إذ يُعزى الأمر في نظر أصحابها إلى تغيير في الاستراتيجية الحربية لتنظيم داعش.

لكن كيف يجوز الحديث عن استراتيجية قتالية جديدة، والصورة أقرب إلى الجنون منها إلى أي توصيف آخر، أو ليس قمة في الجنون أن يكون "تكتيك" هؤلاء المجانين ذاك المشهد المروع في شهر الرحمة والغفران، والذي كانت حصيلته تباعا 45 مسلما في مطار إسطنبول و20 أجنبيا (إيطاليين ويابانيين) في مطعم ببنجلاديش و220 نفسا بريئة في الكرادة أحد أكبر شوارع العاصمة العراقية بغداد في غمرة الاستعداد للعيد، وختاما استهداف مسجد النبي الكريم في المدينة المنورة إحدى الأماكن الآمنة والبقاع المقدسة على وجه الأرض.

ما هكذا يكون تكتيك من يدعي القوة، ويمني النفس بالتمدد، ويحرص على البقاء، ويطمح إلى التوسع. لقد وصل فيلم تنظيم "داعش" نهايته فكرا وسلاحا وتنظيما وشعبية وسيطرة على الأرض. هذا العمل إعلان بداية نهاية الحلم، حيث انتقل التنظيم من موقع الهجوم إلى وضعية الدفاع، ومن الدفاع إلى التراجع، ومن التراجع إلى خسارة مناطق شاسعة في كل من العراق وسوريا وليبيا. والأكيد أن خسارة الأرض تتبعها لا محالة خسائر أخرى في مصادر التمويل وضمان منافذ العبور والقدرة الاستقطابية لمقاتلين جدد.

لو كان تنظيم داعش بتلك القوة التي يُسوقها عن نفسه أو على الأقل التي يريد أن يقدمها للعالم بهذه الهجمات الجنونية المتفرقة في هذا البلد أو ذاك، فالأجدر به- حسب تلك النماذج التفسيرية- أن يحرص على استعادة الأراضي التي فقدها من تلك الرقعة الجغرافية التي ورط نفسه في إدارتها بمنطق العصابة المسلحة لا وفق مقومات الدولة، والسعي لتعويض الخسائر الكبيرة التي تلاحقه منذ أشهر على أكثر من صعيد، وتوحيد الجبهة الداخلية لأعضائه بوقف نزيف المنشقين عنه والهاربين من صفوفه. ويزداد اليقين بأن بريق تنظيم داعش ولمعانه إلى أفول بمراجعة التاريخ وقصص نهاية تنظيمات رادكالية على شاكلتها،

حيث نجد من زمرة الأسباب تلك موت رموز هذه التنظيمات أو القضية التي تحمل لواء الدفاع عنها أو الدخول في خيارات سلمية لتلك القضايا بديلا عن السلاح، وآخر وليس أخيرا فقدان السند الشعبي والحاضنة الاجتماعية وهو ما يحرقه تنظيم داعش تدريجيا بغلوائه وتطرفه وهمجيته ظانا في قرارات نفسه أن تلك الممارسات سترفع من أسهم تقبله لدى المجتمع لكن واقع الأمر يقول العكس. فتاريخا لم يتجرأ أي تنظيم أو جماعة أو طائفة أو فرقة ويقترف جريمة الاعتداء على الأماكن المقدسة للمسلمين؛ وفي العشر الأواخر من شهر الرحمة والغفران، مثلما فعل حواريو البغدادي في الأيام الخوالي. وبذلك يؤكدون أنهم وصلوا نقطة اللا عودة أو ما يعرف في فقه الحروب بالخطأ الاستراتيجي الذي يقترفه أحد الأطراف، والذي يدخل بعده في مسلسل تدحرج وانحدار ومصيره إلى زوال. هذا هو حال تنظيم داعش في أيامنا هذه.. فانتظروها.