& فهمي هويدي&


تلقيت رسائل عدة سألتني معاتبة: لماذا لم أكتب شيئا تضامنا مع المحامي مالك عدلي، الذي لم يسجن ظلما فحسب ولكنه يعاني التنكيل به في محبسه. كان ردي أنه على تواضع قلمي وقلة حيلتي، فإن من يتصور أنني لم أتضامن مع أي مظلوم هو أو غيره فإنه يسيء الظن بي ويبخسني حقي، وإذ أزعم أن الوقوف إلى جانب المظلومين وإنكار ما حل بهم فرض عين على كل مواطن لم يتلوث ضميره بعد، إلا أن التعبير عن ذلك التضامن له صور شتى، ولدي اقتناع راسخ أن إدانة الظلم وفضحه في كل مناسبة هي الوسيلة الأنجع في التضامن مع المظلومين، إذ لست أخفي أنني لا أستريح إلى تجاهل الظلم الذي هو أصل الداء وأس البلاء، والتركيز على أناس بذواتهم، سواء لأنهم نجوم من المشاهير، أو لأنهم من أصدقائنا وجماعتنا، ذلك أن الانتقاء في هذه الحالة لا يفيد، بل قد يكون ضارا، أولا لأن لدينا أجهزة متشنجة قد تلجأ إلى المعاندة والإيغال في إيذاء المسجون كرد فعل للضغط الإعلامي عليها. وثانيا لأن من شأن ذلك أن يغيب القضية الأصلية في ذهن الرأي العام، بحيث يتصور البعض وكأنها مشكلة فرد أو مجموعة أفراد، وليست قضية سلوك سياسي وأمني تهدر في ظله كرامات المواطنين وتنتهك حقوقهم. وهناك اعتبار ثالث يؤرقني طول الوقت. ذلك أن التركيز على الأشخاص المعروفين ودوام الحديث عن معاناتهم قد يكون له تأثيره السلبي على معاناة آلاف السجناء المجهولين الذين يتعرضون للمظالم ذاتها أو لما هو أفدح منها، ولكن أحدا لا يشير إليهم لأنهم ليسوا من المشاهير، وليس لديهم جماعة تدافع عنهم أو أصدقاء وعلاقات تسمح بعرض قضاياهم على الرأي العام. ناهيك عن حجم الوهن والانكسار الذي يعاني منه أهلوهم ممن يصبحون فريسة الإحباط واليأس والحزن لأن المسجونين من أبنائهم صاروا من المنسيين، ولم يعد أحد يأتي على ذكر لهم في وسائل الإعلام، وهو ما ألمسه في الخطابات التي أتلقاها من بعض المسجونين والأهالي محاولة دعوتي للإشارة إلى مظلومية كل واحد فيهم، مع ذكر تفاصيل المعاناة والعذابات التي يتعرضون لها.

لا تفوتني في هذا الصدد الإشارة إلى نزاهة واستقامة بعض النشطاء والحقوقيين الذين لا تفوتهم هذه الملاحظة، إذ رغم أن بياناتهم التي تدعو إلى التضامن مع بعض الشخصيات، فإنهم لا يكفون عن دق الأجراس منبهين إلى شيوع الظلم بين القطاع العريض من المساجين ومنددين بالظاهرة في كل محفل ومناسبة.

إنني أتفهم جيدا ــ وأحترم أيضا ــ أن تتحمس بعض الهيئات والنقابات للدفاع عن أعضائها الذين سجنوا ظلما، وأرى أن ذلك واجب يؤثم من يفرط فيه. لكنني أستنكر في ذات الوقت الخطاب الإعلامي الذي يعمد إلى الانتقاء في التضامن تبعا للهوى السياسي، وأشم فيه رائحة الدفاع عن الأشخاص وليس عن المبادئ والقيم، وربما رائحة الانحياز إلى طرف والشماتة والتنكيل في أطراف أخرى.

حين أقرأ ما تتداوله مواقع التواصل الاجتماعي عن معاناة مالك عدلي الصحية والنفسية والجسدية والعائلية، ينتابني شعور بالحزن والألم جراء ذلك، غير أنني لا أستنكر فقط ما يتعرض له، ولا أتساءل فقط عن الجرم إلى ارتكبه حين انخرط في صفوف ثوار يناير ودافع عن حق الشباب في التظاهر أو عن حقوق الفقراء والعمال، وإنما أتساءل أيضا عن عدد الأبرياء من أمثاله الذين ألقوا في السجون بغير ذنب جنوه، لكنهم منسيون ومحجوبون وراء الشمس، في سجون الواحات ووادي النطرون والعقرب والعزولي وغير ذلك.

إزاء عموم البلوى، فإنني أصبحت مقتنعا بأن التعاسة درجات، وأن حالة مالك عدلي أقل سوءا من غيرها، على الأقل فإن زوجته وأهله يعرفون أنه حي يرزق، في حين أن آخرين لم يعودوا يعرفون عن ذويهم شيئا، لا عن مكانهم ولا عما إذا كانوا أحياء أم أمواتا، ونموذج السيدة مها مكاوي التي اختفى زوجها منذ أكثر من سنتين ولم تعثر له على أثر طول تلك المدة، ليس الوحيد الذي يذكر في هذا الصدد. وهو أيضا أفضل من الذين ماتوا تحت التعذيب، أو الذين قتلوا في ظروف غامضة، أو الذين أصيبوا بعاهات دائمة أو أمراض مزمنة، أو غيرهم ممن منع عنهم العلاج أو منعوا من رؤية أهاليهم منذ ثلاث سنوات، فضلا عن الألوف الذين سجنوا وصدرت ضدهم أحكام بالغة القسوة، دون أن يعرفوا لماذا سجنوا ولا لماذا حوكموا... إلخ.

وتلك خلفية تسوغ لي أن أقول إن ظلمات السجن درجات، فهناك مغمورون منسيون وهناك محظوظون مذكورون، وما يلقاه هؤلاء وهؤلاء يثقل ضمائرنا بطبيعة الحال، وإذا أبرزت وسائل الإعلام قضية الأخيرين، فإن ذلك لا ينبغي أن ينسينا مظلومية المجهولين، ذلك أن كرب هؤلاء وهؤلاء يظل من كرب الوطن الذي نسأل الله أن يفرجه لكي تختفي مسحة الحزن والكآبة التي غمرت وجه بهية المكدود والمتغضن.