&محمد نور الدين

تركيا بلد الانقلابات العسكرية بامتياز. أربعة انقلابات، ثلاثة منها مباشرة أعوام 1960، و1971، و1980، وواحد غير مباشر عبر الضغط على رئيس الحكومة نجم الدين أربكان عام 1997.

كان معدل الانقلابات واحداً كل عشر سنوات. تأخر إلى 17 عاماً عام 1997. وبعده مر 19 عاماً.

محاولة الانقلاب لم تعدم أسبابها الموضعية والعامة. الخلاف بين رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان والداعية فتح الله غولين فرض نفسه. هناك ما يفرض القول إن جانباً من الانقلابيين كانوا من جماعة غولين، وكان مقدراً لهم أن يتم اعتقالهم بعد يوم من الانقلاب فاستعجلوا استباقاً للوقت القيام بمحاولتهم. لكن أيضاً هناك الكثير ممن شاركوا في الانقلاب لم يكونوا من اتباع غولين. كانت هناك حالة اعتراض على سياسات أردوغان الداخلية، ولا سيما تهديد الطبيعة العلمانية للدولة وإقحام البلاد في توترات وتفجيرات وتعريضها للتهديد والمخاطر. كذلك فإن هناك اعتراضات على سياسة أردوغان في سوريا التي أفضت إلى ظهور حالة كيانية كردية تهدد الأمن القومي التركي.

في جميع الأحوال، الانقلاب ليس مصطلحاً جديداً على السياسة التركية وقاموسها. وبعد التعديلات الدستورية عام 2010 وجهت ضربة قوية إلى نفوذ المؤسسة العسكرية، بحيث تكرر الكلام عن أن عهد الانقلابات قد ولّى.

لكن ما حصل في 15 يوليو/تموز كان مفاجئاً إلى حد ما، وليس بالمطلق. إذ كانت تظهر شائعات ومقالات حول احتمال قيام العسكر بانقلاب. وكانت تتردد هذه الأخبار في الصحافة الأمريكية خصوصاً.

ربما كان التوقيت مفاجئاً، لكن احتمال حدوث الانقلاب بحد ذاته كان تحت ضوء العديد من وسائل الإعلام التركية والغربية.

لم تنجح المحاولة الانقلابية. وهي في الحقيقة كانت تحمل كل عوامل فشلها منذ لحظة اتضاح خريطة طريق الانقلاب.

1- افتقدت المحاولة الانقلابية لدعم القيادة العليا للجيش. فالضباط الذين قاموا بها من رتب عسكرية متدنية مع استثناءات قليلة جداً. وبالتالي لم يكونوا يملكون القدرة على تحريك قطاعات أساسية في الجيش، لا في الجو ولا في البر، ولا في البحر. فكانوا أمام انقلاب أيضاً على السلطة العسكرية وهذا من أهم أسباب فشل الانقلاب.

2- لم تكن هناك خطة محكمة لاستهداف السلطة السياسية كما هي العادة في الانقلابات العسكرية التقليدية. فلم تطوق المؤسسات الرسمية الأساسية، مثل رئاسة الجمهورية، والحكومة، والخارجية، والبرلمان. ولم يتم اعتقال أي من المسؤولين، رغم أنهم كانوا في أنقرة، بينما أردوغان كان في مرمريس يقضي إجازة صيفية. وهذا أبقى المسؤولين أحراراً يرسلون الأوامر والتعليمات إلى مؤسسات الدولة الأخرى والناس ويحركون القوى العسكرية والأمنية الموالية لهم. وهذا أمر غريب وغير منطقي.

3- لعبت قوات الشرطة وعناصر الاستخبارات الدور الأبرز في إفشال الانقلاب. وهذا يلقي الضوء على ما كان متداولاً منذ سنوات عن أن حزب العدالة والتنمية كان يجهز قوات الشرطة بكل العناصر والعتاد الثقيل، لكي يكون جيش الحزب في مواجهة عدم الثقة بالمؤسسة العسكرية. كما أن الاستخبارات التركية تحولت إلى مؤسسة يزج فيها حزب العدالة والتنمية كل مؤيديه. وبذلك ينشئ أردوغان جيشاً موازياً، أو جيشاً آخر داخل الدولة لحماية سلطته في الأوقات العصيبة.

أما الحديث عن دور للناس في إفشال الانقلابات فليس صحيحاً، إذ إنهم نزلوا وبأعداد محدودة بعد إنهاء المحاولة الانقلابية.

دخلت تركيا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة مرحلة جديدة من الاحتقان الداخلي، خصوصاً أن أردوغان باشر في إطلاق أوسع حملية تصفية داخل الجيش والقضاء والمؤسسات الأخرى، بما فيها الجامعات، واعتقل الآلاف من المتهمين بالتورط في المحاولة الانقلابية، ومن المشتبه في عدم ولائهم لأردوغان.

لن تنتهي الأمور عند القضاء على المحاولة الانقلابية، فالجيش تعرض لضربة قوية زعزعت بنيانه وهيبته ومعنوياته، وهذا سوف يترك أثراً في العلاقة بين السلطة المدنية والسياسية، وفي قدرة الجيش على مواصلة حربه ضد الأكراد ومواجهة المخاطر من وراء الحدود. ولا شك في أن أردوغان سوف يستغل المحاولة إلى أقصى الحدود ليعزز سلطته والانتقال إلى نظام رئاسي. ولكن توسيع دائرة الاستغلال للمحاولة الانقلابية في اتجاه تعزيز القبضة الأمنية وقمع الحريات والمعارضين لسياساته سيكون مؤشراً على أن تركيا لن تعرف الاستقرار لا السياسي ولا الأمني، وقد تكون أمام محاولات انقلابية جديدة.