&هوامش الأسفار ولطائف الأخبار: «مدينتان وقطبان وجدار»
&
سمير عطا الله

&
إذا ما كنت صحافيًا في الستينات وتحلم بأن تبني اسمًا مختلفًا عن بقية الرفاق، عليك بأكثر نقاط الأرض حرارة: برلين. أقصد، طبعًا، الحرارة السياسية، وربما الحربية. بل ثمة خوف أنه إذا ما بلغ العند مبلغه في واشنطن وموسكو، فقد تنفجر من هنا حرب عالمية ثالثة. فمن هنا، إلى حد بعيد، انطلقت الحربان السابقتان. فلا غرابة.

كانت برلين الستينات عاصمة التوتر الكوني دون منازع. غربها غربي رأسمالي أميركي، وشرقها شرقي شيوعي سوفياتي. مدينتان كانتا بالأمس واحدة تعادي الجميع، واليوم تعاديان بعضهما البعض. تقبعان في مواجهة بعضهما البعض. تتحديان، تكرهان، تتربصان، تتوعدان، تراقبان. والآن، حدث أكثر من ذلك بكثير. أفاق سكان المدينتين فوجدوا فجأة جدارًا يفصل بينهما. لن يعود في إمكان الشرقيين الهروب إلى القسم الغربي. ثلاثة ملايين منهم فرّوا إلى إغراء الغرب، أي 16 في المائة من سكان ألمانيا الشرقية. وفي النهاية، قرر الزعيم السوفياتي، نيكيتا خروشوف، أن لا حل إلا بالجدار. كل من يحاول اختراقه، يرمى على الفور. 150 رجلاً قُتلوا حتى ذلك الوقت.

حالة عالمية لا سابقة لها. إنه ذل الهزيمة التي قسَّمت ألمانيا برمّتها، ووزعت جيوش الحلفاء على برلين الغربية التي أصبحت مثل جزيرة معزولة خارج الألمانيتين، وأبقت الشرق خلف ما سماه تشرشل، في حروب الألفاظ: «الستار الحديدي». وما إن انفرط التحالف السوفياتي - الأميركي بعد الحرب، حتى انصرفت الدولتان الكبريان إلى حرب باردة، كانت ساحتها الكبرى ألمانيا وعاصمتها السابقة.

تظاهر الغرب بأنه يكره الجدار، لكنه في داخله، كان يرى فيه حلاً لخفض التوتر والمشاكل اليومية. ورأى فيه السوفيات عازلاً يوفّر عليهم إهانات اللجوء، والمقارنات المهينة بين ازدهار القسم الغربي والتعتير في القسم الشرقي. ومن حسن حظ برلين، السيئة الحظوظ في ظل أهلها أو أعدائها، أن مركز التوتر والرعب النووي انتقل إلى كوبا، حيث زرع خروشوف الصواريخ المدمرة على بعد 70 ميلاً من هيانيس بورت، مصيف آل كيندي في فلوريدا.

حتى موعد الانتقال إلى كوبا، وقف خروشوف وكيندي في مواجهة بعضهما هنا. الأول يرعب العالم بأسلوبه الساخر وشخصيته الفلاحية الجذابة، والثاني شاب وسيم يتسربل أمام تقريعات خروشوف وتهديداته وقبعاته المتغيرة. وفي اعتقادي، استنادًا إلى كل ما قرأت عن برلين وكوبا، أن خروشوف هو الذي أنقذ العالم من مواجهة الدمار الأخيرة، عندما ضبط الفلاح إهانته إكرامًا لحياة أبنائه. اقرأ عن معنى الإهانة في «الإخوة كارامازوف». لا بد أن نيكيتا سيرغيفتش خروشوف قرأها قبلنا بزمن طويل.
إلى اللقاء...&

&