إدريس الدريس

توزع معظم الجمهور أثناء مباراة الانقلاب العسكري التركي إلى فريقين أحدهما يشجع فريق الانقلاب والآخر يصفق لفريق (إردوغان)، وكان واضحا أن لدى الجمهور السعودي معرفة واهتماما بمتابعة ما يحدث، لكن مع انحياز واضح من هذا الجمهور لما كان يحدث أثناء إقامة المباراة على ملعب الساحة التركية، حتى لقد أظهر بعض المشجعين السعوديين اهتماما يماثل أو يفوق أحيانا اهتمام المشجع التركي.

في ليلة الانقلاب كانت مدرجات المباراة مليئة بحشود المتفرجين المتحمسين من المواطنين السعوديين، حتى تكاد تظن أنه لم يتخلف عن مشاهدة ما يجري أحد من الجماهير السعودية، بل إن الأمر قد تعدى المشاهدة إلى المناحرة وممارسة الخشونة في المدرجات التي اكتظت بالمتعصبين المشجعين سواء الليبراليون والعلمانيون منهم أو السلفيون والإخونجية، ولك أن تعدد كل الأطياف وأن تطلق كل التصنيفات التي تغمر الساحة السعودية لتجد أنها كانت حاضرة في تلك الأثناء.

وللإنصاف فإن الجمهور السعودي قد صار مؤخرا من المتابعين بشغف لكل الأحداث الخارجية، وله فيها موقف ورأي، ولا بد أن تجده في الغالب منحازا بقوة لا تقبل الحياد أو النقاش، بل له موقف سواء بالضدية أو بالمساندة، وهكذا فعلوا في أحداث لبنان أو مصر أو تركيا، وتكمن المفارقة المضحكة في التضاد الذي تجده من هؤلاء المشجعين، وسأضرب مثلاً بمواقف الطائفيين مما حدث في تركيا لتدرك حجم المفارقة، فلدى بعض من يمكن تصنيفهم بالعلمانيين السعوديين موقف مضاد ومصادم لإردوغان رغم أن تركيا دولة علمانية تجد فيها الجوامع، وليس بعيدا عنها الملهى الليلي وكازينو القمار، ثم هم يعلمون أن الرئيس قد أصبح رئيسا بالانتخاب عن طريق صناديق الاقتراع، لكنهم مع ذلك كانوا في مقدمة الشامتين والفرحين بالانقلاب العسكري، ولو سألت عن السبب لوجدت أن موقفهم المتلون إنما هو بسبب موقفهم من حزب العدالة، ومن شخص إردوغان.

أما في الضفة الأخرى من المشجعين السعوديين والذين يمكن تصنيفهم بالمحافظين والملتزمين فستجد أن لهم موقفا مضادا – بالطبع- من قيادة المرأة للسيارة، وكذلك لهم موقف ديني ملتزم بالضد لوجود الخمارات ونوادي الميسر وملاهي الرقص الليلية، لكنهم مع ذلك كله كانوا ضد الانقلابيين لا لشيء إلا لأنهم منحازين إلى شخص إردوغان وإلى حزب العدالة والتنمية، فلماذا هذه المفارقة الساخرة والمحزنة؟ ولماذا يحدث كل هذا التناقض عند الأطياف السعودية؟ ثم لماذا كل هذا الانحياز لدى الجمهور السعودي؟ ولماذا كل هذا الشغف بما يحدث من وقائع خارج البلاد؟ ولماذا صرنا أكثر وطنية من مواطني تلك البلاد؟ وقد أقول لماذا ننحاز أحيانا إلى الآخر فوق انحيازنا وطنياً؟

لماذا نجلد ذواتنا ونشعر بالدونية والانتقاص أحيانا أمام الآخر؟

كيف يجب علينا أن نشحن النفوس ونغذيها بجرعة الولاء الذي لا أشك في وجوده؟ لكنه خامل وخامد، ولا تحركه إلا الأحداث الكبرى، وأقصد هنا أننا في حاجة إلى أن يصرف المواطن معظم اهتمامه بوطنه، وأظن أن للرتابة اليومية التي يمر بها المواطن دورا في ذلك، فليس ثمة مناشط أو فعاليات شعبية واجتماعية يندمج فيها المواطن مع أخيه المواطن، بل إن كل فعالياتنا تكاد تكون فردية ومحصورة بين الأسرة الواحدة داخل المنازل أو في الاستراحات، وهنا مقتضى تنشيط أسباب الترفيه الجمعي للمواطنين.

نحن في المملكة لا نذهب سوياً إلى فعالية عائلية إلا منفصلين، ولست هنا داعيا للاختلاط، لكنني راجيا أن نمارس في الداخل كعائلة بعض ما نتسامح فيه خارج الوطن، مما لا يتنافى وتعاليم ديننا الحنيف، لأنني أظن أن جزءاً كبيراً من مشكلتنا الاجتماعية هي في العزلة الاجتماعية المبالغ فيها والتي جعلتنا منقسمين رجالاً ونساء فلا نلتقي إلا داخل أسوار المنازل، ولهذا فإن التخفيف من هذه العزلة عبر تكثيف المناشط الاجتماعية الترفيهية والثقافية المشتركة سيكون كفيلا باندماجنا في حياتنا الاجتماعية الداخلية والانصراف نسبيا عن المبالغة في اهتمامنا بالشأن الخارجي.

وباختصار فإن على السعوديين أن يمارسوا حياتهم في الداخل كما يفعلون وهم بكافة أطيافهم المحافظة أو الليبرالية يحزمون حقائبهم ويسافرون في إجازاتهم للخارج القريب أو البعيد لكنهم يتخلون عن كثير من عفويتهم وأريحيتهم بمجرد عودتهم إلى الوطن. فيا أيها السعوديون ليتكم عند عودتكم من إجازاتكم تصطحبون بعض تسامحكم وانضباطكم المروري وسلوككم الحضاري الذي تمارسونه في الخارج ثم تزرعونه داخل الوطن.
&